يكذبون كما لا يكذب أحد…
صالح التيزاوي
لأنّ رؤوسهم ازدحمت بالمؤامرات، ولأنّ صدورهم اكتظّت بالأحقاد، ولأنّهم شغلوا أنفسهم بتدبير المكائد، فإنْهم، أقصد من نصّبوا أنفسهم وكلاء حصريين للحداثة في بلادنا وللتّقدّم ولكلّ الشّعارات البرّاقة التي لا تجد لها أثرا ولو فتّشت بمجهر في كلّ زوايا تفكيرهم المتطرّف وفي كلّ مساحات سلوكهم. لا يتورّعون عن صنع الفتن وافتعال الأزمات وإشاعة الأخبار الكاذبة للمتاجرة بها، وهم مبدعون ومتفوّقون خاصّة في المتاجرة بالأموات وهاهم يثرون رصيدهم النّضالي بالمتاجرة في القبور… إمّا لتهميش أحداث إيجابيّة والدّفع بها نحو حافة النّسيان، أو لإيجاد مناسبة لقصف من صنّفوهم أنْهم “أعداء الحداثة”، تماما كما كان يكذب بن علي. وهم من فرط انتفاخهم ووهم امتلاكهم لناصية الحقيقة يقرّرون من هو الحداثي ومن هو عدوّ الحداثة حتّى أصبحوا قساوسة يوزّعون صكوك الحداثة وأضحوا كهنة في معبد الحداثة التي لا يملكون من أمرها شيئا وباتوا بعد فرار بن علي حرّاسا لنمطه المجتمعي، الحداثة أبرز غائب فيه.
بعد رفض المجلس العلمي للجامعة الزّيتونيّة إسناد الدّكتوراه الفخريّة لمن طلبت له، وكان حدثا مميّزا، قوبل بترحيب شعبي وأكاديمي ومن المثقّفين كما لم يحدث من قبل. حدث يشهد لجامعة الزّيتونة بعراقتها وأصالة مواقفها التّاريخيّة المشرّفة، ويشهد للبلاد بنجاح مسارها الإنتقالي وتعافي كثير من مؤسّساتها من ضغوط التّعليمات واسترداد روح المبادرة والإستقلاليّة بعيدا عن التّوظيف السّياسي. حدث لا يقع إلْا في أعرق الجامعات وفي أعتى الدّول ديمقراطيّة. وبدل أن تتجّه الأنظار للإشادة بالحدث وإثارة نقاش حول مزايا الإستقلاليّة ومكاسب الثّورة، أفقنا صباح الخميس على خبر تخريب قبر الصّغير أولاد حمد، هكذا يصرف أدعياء الحداثة الأنظار عن الأحداث العظيمة لإلهاء النّاس بسفاسف الأمور.
خبر تناقلته وسائل التّواصل الإجتماعي، وعلى جناح السّرعة اندلعت التّعليقات وانتصبت البلاطوهات وتتالت البيانات في وقت متزامن وكأنّها كانت على موعد مسبق مع الحديث لتتوجّه بالإتّهام والإدانة لمن قيل عنهم “إنّهم أعداء الفكر، وأعداء الحداثة، ولا يراعون حرمة الأموات” فكانوا كطواحين الهواء. سلسلة من التْهم الجاهزة من عقول مريضة أكل منها فيروس المكر والحقد ما أبقاه فيروس الأيديولوجيا. لم يكلٍفوا أنفسهم عناء التّثبْت من الخبر وهم على بعد أمتار من المقبرة، لأنّ المهمّ عندهم، ليست صحّة الخبر من عدمه، بل اقتناص اللٰحظة وتحويلها إلى “مناسبة وطنيّة” ليعلنوا أنّ الحداثة في خطر، ولا بأس بالمناسبة من توجيه قصف مركّز على “أصحاب الفعلة المشؤومة” من أعداء الحداثة، حالهم في ذلك حال النّار إذا لم تجد ما تأكله أكل بعضها بعضا.
تحوّل وزير الثّقافة وجمع غفير من المهتمّين بشأن الثّقافة ومستقبلها للإطمئنان عليها في “مكان الجريمة المزعومة”. واستمعوا إلى شهادة الشّهود وتلوا فاتحة الكتاب على روح الفقيد، ولو أطلّ الفقيد بنفسه من قبره ونفى أن يكون مرقده قد تعرّض للتْخريب لخاطبه صنْاع الفتن وتجّارها: “نم يا رفيق ولا تفوّت علينا لحظة الإستمتاع بالفرصة وممارسة حقّنا في النّضال… فنحن قاب قوسين أو أدنى من إعلان إلإضراب العام انتقاما للموت من الحياة”.