الأربعاء 18 يونيو 2025
نور الدين الختروشي
نور الدين الختروشي

العلمنة فلسفة.. واللائكية إيديولوجيا

نور الدين الختروشي
هروب الفلسفة إلى التفكير حول السياسة بعد أن قطعت نصف خطوة مع أرسطو في أفق التفكير في السياسة والى أن ثنائية الدين والسياسة ليست سوى تداعيا من تداعيات التفكير ضمن قوالب الثنائيات الإغريقية التي شكلت بالنهاية البنية الذهنية للعقل الأوروبي /المتوسطي في استكناه الاشكالية القديمة المتجددة في ترسيم الحدود بين الحيز الديني والحيز السياسي الذي انتهت عنده الفلسفة العلمانية. 
فالعلمنة ليست بالنهاية سوى إمتداد لمحاولة فك الإرتباط بين الجسد والروح، والتفكير في العلمانية هو بالنهاية إعادة إنتاج لإشكالية العلاقة بين الذات والموضوع عند نقطة إنفتاحها على التاريخ. وبالتحديد على حد إشكالية السلطة.
ودون الوقوف عند التمييز المتداول والمعروف بين اللائكية الفرنسية اليعقوبية المطاردة والمترصدة للديني في كل مرصد، والعلمانية الانقلوسكسونية الأقل تشنجا في التعاطي مع مبدأ الفصل بين السياسي والديني نقاسم الكاتب مصطفى الجرف الذي كتب في موقع اوريون نت في جويلية 2013 مستعرضا الفرق بين لائكية فرنسا وعلمانية الانقليز التالي:
“في هذا المقام، وعند مقاربة موضوع العلمانية، من المفيد جداَ البدء بأن نميز، كما يفعل الباحثون في علم الإجتماع السياسي، بين صيغتين، أو نسختين للعلمانية، كما نشأتا تاريخيا وترسختا بشكل مؤسساتي مستقر وثابت في سياق بناء الأمة القومية والمواطنة” والديمقراطية في الغرب. مع أن هاتين الصيغتين أو النسختين كليهما قد وصلتا، بعد كفاح مرير وعنيف أحياناً، وجدل فكري طويل، وتفاوض ديمقراطي صعب، إلى نفس النتيجة تقريباً في النهاية: تحديد العلاقة بشكل واضح ونهائي بين حقل الشأن السياسي العام من جهة، وحقل العقيدة الدينية من جهة أخرى، بما يضمن حرية العمل والفعل السياسي من هيمنة العقائد الدينية، ولكن بالمقابل يؤمن أيضاً حرية الإيمان والفعل الديني من هيمنة كيان الدولة السياسي.
الصيغة أو النسخة الأولى المقصودة هي النسخة الفرنسية اليعقوبية للعلمانية، والمعروفة باسم (Laïcité)، والتي كانت إحدى أهم نتائج الثورة الفرنسية عام 1789، وهي نسخة شديدة، تتميز بعداء واضح للدين وللمؤسسات والرموز الدينية، وترتكز على فلسفة معينة للدولة وللمواطنين وللحرية الديمقراطية، تكون فيها الدولة علمانية والمواطنون علمانيون كذلك، وفحواها أن الدولة المركزية وحدها، ليس من تضمن الحريات في المجتمع الديمقراطي فحسب، وإنما هي وحدها من تقوم بتحديدها ومنحها لأفراد المجتمع أيضاُ. ونتيجة لحرص الدولة المركزية على التساوي التام للعاملين في الحقل العام، فهي تستبعد الدين من هذا الحقل بشكل قطعي، وتحظر بشدة ظهور أية إشارات دينية يمكن أن تميز الأفراد بعضهم عن بعض، وفقاً للدستور وتحت رقابة البرلمان المنتخب طبعاً.
أما الصيغة أو النسخة الثانية فهي النسخة الأنغلوساكسونية (Secularism)، وهي النسخة التي سادت في جميع البلدان الغربية حيث تسود العقيدة اللوثرية بتنويعتين رئيسيتين، إنكليزية وأميركية. يمكن القول عن هذه النسخة أنها نسخة خفيفة نسبة إلى النسخة الأولى، وأنها على عكسها أيضا صديقة للدين، فهي لا تستبعد المؤسسات والرموز الدينية من الحقل السياسي للدولة تماماً، بل تقوم بتبنّي بعضها كمكون مميز للدولة، تتعاون معها وتدعمها في أعمالها الاجتماعية لفائدة الخير العام. تسمح الدولة هنا للأفراد باقتحام المجال العام مصطحبين معهم ما شاءوا من هوياتهم الدينية الخاصة. تقوم فلسفة الدولة والمواطنين والحرية الديمقراطية هنا، بشكل مقابل للصيغة الأولى، على أن أساس الحرية هو الفرد المستقل نفسه، وما على الدولة إلا أن تنظم بالقانون توزع الحريات بين الأفراد المستقلين المتساوين. نميّز في التنويعة الإنكليزية أن الدولة تبقى مرتبطة رمزياً بالكنيسة في حين أن المواطنين علمانيون، بينما تكون الدولة المركزية الفيدرالية في أميركا علمانية تماما في حين أن مواطنيها شديدو التديّن.
فكرة الفصل في المقابل مقدمة الوصل بين الديني والسياسي جاءت في سياق البحث عن تسوية تاريخية. بين السلطة المادية والسلطة الرمزية، بالارتكاز على دروس التجربة الثيوقراطية في المجال الأوروبي، والانتباه للقدرة الهائلة لتحالف الكنيسة مع القيصر على تأميم المجال الحميمي والحيز المدني لصالح مشروع حكم مطلق، وصبغة شخوصه واختياراته بصبغة مقدسة.
وما التأسيس الفلسفي لفكرة العلمانية سوى محاولة لتقعيد مطاردة المقدس بوصفه نقيضا للعقلانية، فالايمانية المطلقة بالعقل عوضت الإيمان بالله والغيبيات المتصلة بمنظومة الأديان السماوية. وبرزت الوضعانية التبشيرية في أواخر القرن الثامن عشر والقرن الذي تلاه كدين جديد تلقفته النسخة اليعقوبية في فرنسا وصاغت على أساسه تصورها لاجتماعها السياسي بعد ثورة 1789.
أفلاطون في الجمهورية يقدم لنا السياسة على أنها أخلاق بناءا على أنها بالنهاية خارطة طريق لإنجاز العدالة. فالعدالة عند أفلاطون كما عند أرسطو هي الفكرة الأولى أو باطن السياسة ومدار شرعيتها.
نستطيع هنا أن نقول بحذر إن أول إستراتيجية دمج بين الديني والسياسي ولدت في أثينا، لأن الأخلاق في مرحلة تالية انتظمت في الأنسجة الدينية. ورغم المحاولات المتكررة لفك الإرتباط بين الأخلاق والدين، فإن الدين ككلية رمزية يبقى بالنهاية منظومة قيمية أو َنظام أخلاقي مشدود لفكرة الفضيلة.
الحوار بين الديني والسياسي ولد في حجر المساجلة بين الديني والأخلاقي لذا كانت نهاية العلمانية في نسختها الفرنسية المتشددة محاولة “لوضعنة” الموضوع الأخلاقي قبل أن تكون مطاردة للديني من الحيز العام.
الرأي العام “التونسية”


اكتشاف المزيد من تدوينات

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً

نور الدين الختروشي

راشد الغنوشي : االشيخ الزعيم أم الأستاذ الرئيس ؟

نور الدين الختروشي  صورة عناق راشد الغنوشي والجلاصي هي ما تبقى من المؤتمر العاشر لحركة …

نور الدين الختروشي

منجي مرزوق والقطط السمان

نور الدين الختروشي كلنا منجي مرزوق على هامش معركة كسر العظام بين وزير الطاقة وبعض …

اترك تعليق