الجزائر: حين يتحرّك حلم صغير غامض تحت جثّة تاريخ ضخم
عبد الرزاق الحاج مسعود
تلخيص:
يتحرّك التاريخ في الجزائر بنسق يناسب حجمها الكبير. وهو يتحرّك بشفرته الخاصّة طبعا بما يدعو إلى الإنصات إلى لغته هو لا أن نُسقط عليه أمنياتنا ورغباتنا المجهضة. للجزائريين المتظاهرين في الشوارع بكثافة مطالب بدأت بسيطة وتتطوّر طبقا لتفاعلات أجهزة النظام المعروف عنها غموضها وتعقّدها وثقلها. ثقل في التاريخ والمصالح وفي ردود الفعل. والتساؤل حول مآلات هذا الحراك المفتوح حتى الآن ليس من قبيل استقراء الغيب بقدر ما يجب أن ينبني على قراءة تستحضر كلّ عناصر التأثير في سيرورة الحدث الجزائري الذي لم يكن مفاجئا كما كان الشأن في ما سبقه من حراك شعبي في محيطه العربي.
مقدّمة:
مرّة أخرى تتحرّك رقعة من أرض العرب. ولكنها تتحرّك بمنطق خاصّ قد يستعصي عن التصنيف النظري السوسيولوجي والسياسي القبْلي التقليدي. وأية رقعة؟ الجزائر الكبيرة بكلّ المقاييس: أرضا واقتصادا وثروة وأسئلةَ ثقافةٍ ووزنا سياسيّا مغاربيا وعربيا ومتوسطيا وعالميّا. ما يحدث في الجزائر يتشكّل يوميا وتدريجيّا وبسرعات خفيّة لا أحد يعلم وتيرتها وبحذر شديد من الجميع وبغير تخطيط من قيادة موحّدة للحراك ترسم أهدافه وتستشرف مآلاته لمنع احتوائه أو توجيهه أو توظيفه أو اختراقه أو إجهاضه من طرف فاعلين داخليّين أو خارجيّين متربّصين كثر، تماما كما حدث مع هبّات التحرّر العربية الأخيرة.
1. بماذا يطالب الجزائريّون ؟
أخذ الحراك الجزائري على امتداد ثلاثة أسابيع كاملة (انطلق في 22 فيفري 2019) عنوانا كبيرا مضلّلا للجميع، لجموع المتظاهرين أنفسهم الذين تعذرهم عفويّتهم طبعا، وللمتابعين عن بعد، ولمن يستبسلون في منع التاريخ الجزائري والعربي من التقدّم: العنوان العامّ للحراك الشعبي الجزائري هو “لا لعهدة خامسة” للرئيس الحالي. ولكن اسم الرئيس لا يعدو أنه كناية عن شيء أكبر بكثير. الأكيد أنه ليس كناية عن نظام سياسي فقط يمكن اختزاله في رئيس مريض عاجز عن الحكم ونومنكلاتورا عسكرية غامضة تحكم من خلف صورته وتاريخه وتحتكر الشأن السياسي الجزائري ومقدّرات البلاد الضخمة باسم ثورة تحرير عظيمة تركت صداها في التاريخ السياسي العالمي الحديث وفي التنظير السياسي التحرّري الأممي. إنه كناية عن مأزق تاريخي عامّ عنوانه سياسي واقتصادي(عجز عن التحوّل نحو الديمقراطية ودولة القانون والرفاه) وعمقه وامتداداته بنيوية مجتمعية ثقافية.
يجب أن نتذكّر إذن أن الجزائريين اكتفوا بالمطالبة بعدم مشاركة الرئيس الحالي في الانتخابات المقرّرة ليوم 18 أفريل القادم لأنه يعني ببساطة رئاسة مدى الحياة. والأدهى أنها حياة أشبه بموت غير معلن. وهو غير معلن لضمان استمرار احتكار الشأن السياسي من طرف طبقة سياسية متهرّمة وحاشية رئيس وجيش وبارونات فساد يعرفهم الجزائريون بالاسم ويحظون بحصانة عليا.
المطلب إذن بسيط لا يشير إلى ديمقراطية أو حداثة أو حرية أو كرامة أو تقدّم أو حقوق إنسان أو استقلال اقتصادي أو غيرها من مطالب الثورات الحديثة. هو أقلّ من ذلك بكثير جدّا. ولأنه بسيط فقد ترجم الهاوية التي انتهت إليها السياسة في بلاد في حجم الجزائر. شعار اختزل أزمة شاملة انتهت إليها الجزائر ككلّ دول “الاستقلال” العربي التي خرجت من الاستعمار المباشر الطويل والمدمّر والهمجي بعاهات تاريخية كبرى لم تفلح نخبها وشعوبها في العثور على وصفة البرء منها إن لم تكن فاقمتها وعفّنتها إلى درجة صارت تهدّد كيانها ونسيجها المجتمعي. عاهات ظلّت تنخر بنية تفكير العرب والطبقات النفسية العميقة للشخصية الأساسية لشعوبهم لتتحوّل مع الزمن إلى ألغام انفجرت تباعا في وجه الجميع خلال العشرية الأولى من القرن الجديد. ألغام لم تستثن حتى الآن أيّ رقعة من أرض العرب.
إزاء بساطة الشعار/المطلب، لم يرتبك كثيرا محترفو السياسة من أحزاب حكم ومعارضة، وظنوا كأغلب المراقبين أن شبح عشرية الدم ومشهد انهيار الثورات العربية وتحول بعضها إلى حريق مفتوح (سوريا واليمن وليبيا) سيمنع الشباب من المضيّ أبعد في مطالبه، فاكتفى رئيس الحكومة ورئيس حملة الرئيس قبل إقالته وقائد الجيش بالتحذير من الفوضى ومن المصير السوري على سبيل التخويف والتهديد. لكنّهم فوجئوا جميعا باتساع رقعة المظاهرات لتصل إلى كل المدن ثم الجامعات ثم الثانويات. وفوجئوا أكثر ربّما بتطوّر مطلب المتظاهرين الذي غادر الدرجة الأولى سياسة (رفض ترشح الرئيس الحالي في الانتخابات القادمة) ليطالب بمرحلة انتقالية كاملة يتمّ التفاوض بشأنها في ندوة وطنية قد تنتج دستورا جديدا وتفتح باب المشاركة الشعبية في الشأن السياسي الذي صادرته لوبيات السياسة والفساد طويلا.
في هذا السياق جاءت “مفاجأة” إعلان بوتفليقة سحب ترشّحه للعهدة الخامسة ضمن إجراءات انتقالية أخرى أربكت الشارع المحتجّ فخرج في يومه الأوّل مبتهجا ب”تحقّق” مطالبه و”انتصاره”، قبل أن تنتبه بعض مكوّنات “المعارضة” أنّ هذه الخطوة قد لا تكون استجابة لمطالب الحراك الشعبي بقدر ما هي لا فقط مناورة من طرف الغرف الخلفية للنظام لربح الوقت وإعادة ترتيب بيته الداخلي، بل قد تكون ببساطة إلغاءً للقليل الديمقراطي الشكلي واستيلاءً على الحكم باسم مرحلة انتقالية وحده النظام الحالي من سيرسم له جدوله الزمني والمشرفين عليه ومضمونه. الأمر الأكثر طرافة أن بعض هذه “المعارضة” المشككة في المبادرة الرئاسية الأخيرة ليست إلا صوتا ناطقا باسم مراكز القوّة الغامضة والمتصارعة من داخل النظام نفسه، بما يعني أن اختراق الحراك الاحتجاجي الحالي هو معطى حاصل فعلا. قد يفسّره البعض طبعا على أنه تقاطع موضوعيّ بين المتظاهرين ومراكز داخل النظام لها مصلحة في التغيير ولو كان ضمن صراع مصالح، تقاطع قد يخدم التغيير الديمقراطي الذي يطالب به الشعب. ما يجري في الجزائر الآن ليس ثورة ديمقراطية ولا ثورة حريّة. ونكاد نجزم أن الجزائريّين المتظاهرين لا يطالبون لا بالديمقراطية ولا بالحرية. طبعا ليس زهدا فيهما بسبب تخمة منهما أو بسبب اعتقاد نظري في عدم صلاحهما، بل لأنهم لا يمتلكون، تماما كما هو الشأن لكل شعوب العرب، تصوّرا مشتركا واضحا لهما. هم يتظاهرون بهذا الحماس وهذه التلقائية للتعبير عن حالة “سخط” عامّ ومتراكم وغامض وشامل. سخط شبابي على أجيال الكبار التي أساءت التصرّف في ثروات البلاد الطائلة حتى أوصلت الأجيال الجديدة إلى الشعور بالمهانة بسبب انسداد أبواب المستقبل أمامهم مقابل احتكار أقلية فاسدة كلّ الثروة التي يدرك الجميع حجمها الاستثنائي في بلد/ قارّة.
2. هل ما يجري ثورة ؟
يجري الحديث عن أنّ ما يحصل في الجزائر موجة ثانية من الربيع العربي المتعثّر والمنقلب عليه. ويذهب بعض المتفائلين إلى أنّ “الشعب الجزائري العظيم” لن يقع ضحية الخديعة التي سقطت في هاويتها شعوب مصر واليمن وسوريا وتونس أيضا ولو بطريقة أنعم. ولذلك سينجح حتما في إنجاز “ثورة” مكتملة تناسب حجم الجزائر. يبني هؤلاء تفاؤلهم بمستقبل الحراك الجزائري على مصادرة نفسية وجدانية محضة تقول بـ”نضج” الشعب الجزائري وقدرته على الاستفادة من أخطاء أشقائه من الشعوب العربية التي نجحت مؤامرة دولية غربية/صهيونية بأدوات خليجية وشبكة وكلاء محليّين في إجهاض ثوراتهم.
طبعا لا أحد من حقّه أن يثني الشباب الجزائري عن طرْق باب الحلم مهما كان طوباويا ومجنّحا. ولكنّ الرهان العاطفي على “وعي متقدّم وطليعي” و”رؤية استراتيجية ثاقبة” و”قدرة أسطورية” على تركيع الاستعمار وعملائه وإجهاض مؤامراته ممّا يقع تداوله اليوم حول الانتفاض الشعبي الجزائري لا يعدو أن يكون حديثا إيديولوجيّا تبشيريّا لا يحيط بتعقّد الحالة الجزائرية وعدم تأهّلها لإحراز تحوّل عميق في بنية النظام الحاكم نظرا لضخامة الرهانات الداخلية والدولية المرتبطة به وفي بنية الوعي غير الديمقراطي لدى المعارضة المهترئة والشعب المحافظ أيضا. ولو أضفنا مقارنة بسيطة مع ما حدث في تونس من “انكشاف” ضحالة الوعي الديمقراطي لدى النخب الجديدة التي كان منتظرا منها قيادة مرحلة البناء الديمقراطي رغم عراقة التيار الحقوقي والديمقراطي في تونس مقارنة بالجزائر، ورغم افتقاد النظام القديم في تونس لعناصر الصمود وانفراط شبكات الفساد بمجرّد ذهاب العائلة الحاكمة والتحاق أجزاء كبيرة من منظومة الحكم القديم بالمؤسسات الجديدة، مقارنة بضخامة جهاز الحكم في الجزائر.. هذه المقارنة البسيطة تكشف لنا افتقاد الجزائر لشروط التغيير الديمقراطي. نستطيع أن نضيف تقاربا كبيرا في بنية تفكير الشباب في البلدين حيث يتشكّل المخيال الشبابي بنفس المرجعيّات والاستيهامات تقريبا. مرجعيّات يتنازعها تصوّران متطرّفان قد ينتجان حراكا مدمّرا للسائد ولكنّه لا يؤسّس لبناء جديد. هذان التصوّران هما: حماس ديني انفعالي سطحي يتّخذ من النموذج التاريخي النبوي المتخيّل مثالا يجب استدعاؤه شعوريا لتحمّل بشاعة الواقع والهروب منه. وفي المقابل من هذا التديّن العاطفي حالة انفصال كلّي عن الحياة وانغماس في التعصّب الرياضي العنيف والمخدّرات في انتظار الإفاقة وسط جنّة متخيّلة أوروبية توجد على بُعد مغامرة عبور للمتوسّط تكلّف الجزائر آلافا من أرواح شبابها سنويّا. هذا في العموم وضع الشباب الجزائري الذي يمعن قسم من نخبنا المؤدلجة في مديح وعيه المتقدّم الذي سيكون في نظرهم الصخرة التي ستتحطّم عليها مؤامرات الاستعمار العالمي ووكلائه المحلّيّين(!).
ومقابل التيه الشبابي توجد نخب فكر وسياسة جزائرية ذات خصائص يمكن إجمالها فيما يلي: في ظلّ دولة الجيش صاحب الشرعية الثورية المقدّسة لم تنشأ في الجزائر تقاليد تفكير لا في السياسة ولا في كل فروع المعرفة. والنخب التي تلقت تعليمها في فرنسا وفكّرت من داخل ثقافته وتقاليده الأكاديمية لم تنجح في خلق جسور تفاعل مع شعب ظلّ في عمومه يتحصّن نفسيّا بثقافته التقليدية حتى أنه تعامل مع لغته العربية كأداة حرب ثقافية/دينية ضدّ المستعمر وبالتالي ضدّ جزء كبير من نخبته ذات الثقافة الفرنسية. في المحصّلة يسود داخل النخب الجزائرية (والتي يعيش جزء مهم منها في الخارج) انقسام حادّ جدّا بين تيّار محافظ تقليدي منقطع عن الحداثة الكونية من جهة، وتيّار تحديثي متماه كلّيا مع النموذج الأوروبي في التحديث، النموذج الذي ما يزال جرحه الاستعماري حيّا في ذاكرة الجزائريّين.
لذلك ليس من السهل أن تلتقي نخب الجزائر وشبابها حول برنامج انتقال ديمقراطي وطني جامع في المدى المنظور، وهو ما يراهن عليه النظام الحالي لاستيعاب موجة الاحتجاج العالية حتى الآن.
3. هل يتوقّف التاريخ الجزائري هنا إذن ؟
بالتأكيد لا. والأكيد أيضا أن ما يجري الآن من حراك يكسر ولو جزئيّا الجمود التاريخي ويسهم عمليّا في تشكّل ثقافة جديدة لدى شباب جزائري يعيش “حرية” من نوع ما داخل شبكات التواصل الاجتماعي دون الحاجة إلى التنظير لها كما فعل جيل الآباء طويلا من دون جدوى. هي بعض فضائل التكنولوجيا الحديثة التي تمنع التاريخ من التكلّس، ولكنّها لا تكفي وحدها لصناعة مجتمعات عربية جديدة لا يزال كلّ ما فيها يقاوم التغيير ببسالة.
يجد الجزائريون أنفسهم، كما العرب عموما، في مواجهة كلّ أزماتهم القديمة المتراكمة دفعة واحدة: تنوير مجهض وديمقراطية ساءت سمعتها قبل أن تبدأ، هوية دينية نجحت تيارات التعصّب والجريمة المخترقة مخابراتيّا في تشويهها بالدم، دولة تملّكتها لوبيات الفساد المنظّم والجريمة المحمية بالقانون، مقدّرات مرتهنة لدى احتكارات رأسمالية استعمارية عابرة للحدود والسيادة بكل الوسائل بما فيها الاستخباراتية والعسكرية…
أن يواجه مجتمع كلّ أزماته دفعة واحدة يعني أنه بلغ عمق المأزق. مأزق لا نظنّ الشباب المتظاهر بحماس في الشارع الجزائري يدرك أبعاده ومتطلّبات مواجهته. ولا نظنّ نخب الحكم المكبّلة بمصالح ضخمة بما فيها المعارضة القديمة تملك من الإرادة ومن وضوح الفكرة والاستشراف والمرونة السياسية ما يؤهّلها لتوجيه هذا الزخم التاريخي الجديد نحو توافق تاريخي واسع يسمح بإرساء قواعد اجتماع سياسي وطني حديث يقوم على سيادة القانون.
خاتمة:
الرهان على عفوية الشعوب في إحداث تحوّلات جذرية في بنية الدولة والمجتمع لا يمكن أن يكون رهانا جادّا. لذلك سيظلّ التساؤل قائما بحدّة حول قدرة المجتمع الجزائري على خلق ديناميات تغيير حقيقي يستطيع بفضلها ترسيخ فكرة الحرية والتعايش المواطني المدني في مخيال الشباب الذي يتجاذبه التعصّب السلبي حاليّا، وفي بنية الدولة عبر فرض دولة القانون الحامية للمواطنة وللقرار الوطني المستقلّ في ظلّ حرب عالمية مفتوحة على ثروات الشعوب وسيادتها.
مركز الدراسات الإستراتيجية والديبلوماسية