في معنى الرجعية …
علي المسعودي
الماضي هو طفولتنا النضرة وشبابنا الغض.. والزمن الجميل يسكن دائما في الألبومات، وفي صور الأبيض والأسود القديمة. الماضي هو فستان جميل سحبت أذياله امرأة فاتنة ثم غابت في الضباب، بعيدا عن وحشة الحاضر وقبحه… لهذا ينتابنا الحنين الجارف لتلكم السنين، ولهذا أنا رجعيّ بطبعي، وأزداد رجعية كلما ازداد حاضري قتامة… وربما جميعكم كذلك !.
الرجعية إذن هي سلوك طبيعي للبشر، والانسان العاطفي جدا قد يقوم باسقاط مشاعره الخاصة على التاريخ بأكمله، ويرى أن اطلنطس السعيدة هي حقيقة واقعة وأنه لابد من اخراجها من قاع المحيطات لتعود للحاضر جنّته.. فينشأ الفكر المتشبِّثُ بمقولات الماضي، والحنين إلى المجد الغابر.. ونقول عن هؤلاء أنهم رجعيون بمعنى العبارة السلبي..
والواقع أن عبارة الرجعية ذاتها تحمل ايديولوجيا خاطئة من أساسها، تعتمد تصوّرا خطيا لمسار التاريخ وللفكر البشري، وتفترض دائما أننا في أعلى الربوة.. بينما هناك كثير من الأفكار الموغلة في القدم، والموغلة أيضا في التطور إلى الحد الذي يبدو معها بعض الفكر المعاصر عبثا من عبث الصبيان.
تهمة الرجعية هي أساسا صفة لمن يريد وضع العصا في عجلة التاريخ.. ولكنها أيضا تهمة البورجوازية الكولينيالية لأنماط انتاج متخلِّفة، تهمة الرجل الأبيض للشعوب الأخرى، استعرناها وجلدنا بها أنفسنا بدلا عنه. هي أيضا مرادف لنرجسية الانسان المعاصر الذي يحسب نفسه أقرب إلى الله، وأقرب إلى السماء في معناها المعرفي والفيزيقي..
ولكن الرجعية لا تكون انحرافا فكريا إلا إذا كانت اغترابا عن الواقع، وهروبا من التأريخ إلى التاريخ، الرجعية المريضة هي التي تعيش حالة انكار للحاضر.. وهي بهذا المعنى حالة سريرية وليست فكرية..
أكثر المفكرين تقدمية في أفكارهم، يصبحون رجعيين -كلما تقدم بهم العمر- على المستوبين العاطفي والايديولوجي..
•••
بعض من تيارات الاسلام السياسي أنقذ نفسه مع الوقت من حالات الانحراف الرجعي، عندما ارتأى أن يقدس النص الديني تقديسا معاصرا، وأن يعيش حاضره بعمقه الثقافي.. حتى إنه تماهى في بعض الأحيان مع المُثُل الكونية المعاصرة رغم أنها مُثُلٌ تاريخية ولانهائية..
أما اليسار التونسي اليوم، فهو مجرّد ديانة قديمة، لها كتبها المقدّسة المُهترئة تقليبا، وحواريوها.
ففي الوقت الذي يسِمُ نفسه بالتقدمية والحداثة، نراه يعيش رجعية مكثفة تقترب من طوائف السلفية الذين ينكرون على الناس استعمال المراحيض بدل الخلاء !.. هذا اليسار مازال يقدس نصوصه المرجعية أكثر مما يقدس المؤمنون نصوصهم الدينية، ومازال يؤمن بأطلانطس التي غمرتها أمواج التاريخ أيام كومونة باريس، أو ثورة 1917..
أن تكون يساريا وحداثيا، فأنت تفكر بعقل بورجوازي بائس متنكرا في أساليب ما بعد الحداثة لمجرد التعمية والتضليل..
اليساريون في نسخهم المعاصرة لا يقبلون في نصوصهم لا جرحا ولا تعديلا… ومثلما انقسم المسلمون في أيام بؤسهم إلى ملل ونحل يكفر بعضها بعضا، انقسم اليساريون إلى مذاهب شتى، كل مذهب يحتكر لنفسه جنّة الأرض، ويحتكر علامات الطريق !.. وفي كل قبيلة هناك نبيّ، يدعي لوحده الانتماء للابراهيمية المادية التي بشر بها ماركس وانجلز، بدء من تروتسكي وانتهاء بستالين وماو، ولهم صحابة وتابعون وتابعو التابعين.. ثم صاموا عن كل اجتهاد وتفكير نقدي منذ ذلك الوقت..
اليساريون الذين يقدّمون أنفسهم تحت هذه الصفة يدّعون في كل حين الإعلاء من شأن العقل.. ولكنهم أيضا أكثر الناس إيمانا بالنقل !!
فالبيان الشيوعي هو حقيقة التاريخ المطلقة.. ولا اجتهاد مع نص الحقيقة المطلقة !.
ومثل ما أُهمِلت الكتب السماوية السابقة واندثرت تعاليمها، انقاد بعض اليسار إلى الابتعاد عن المقولات الأصلية أو تناسوها، وانخرطوا في معارك تتناقض مع مبادى فكرهم وتحالفاتهم.. أن تتجاهل الصراع الطبقي وشروط اصطفافاته، أن تتحالف مع سلطة رأس المال ضد من تدعوه في أدبياتك البروليتاريا.. أن تكون شريكا في سلطة تابعة أو خادما لها.. أن تناصب العداء لفئات من الشعب لمجرد انتمائها الثقافي أو الايماني عوضا عن مقارعة الظلم وكشف اصل الصراع على وسائل الانتاج فهذا كله انحراف عن المرجعية الفكرية الاصلية أو تناسيا لها..
الرجعية هي أن تتحالف ضمنيّا أو موضوعيّا مع بقايا نظام يبحث عن طوق نجاة وتعيده إلى الحياة.
الرجعية أن تُهادن طبقة المنتفعين وأصحاب الأموال، وأن تقبل بهم ظهيرا لك في إعادة تشكيل وعي العمال !.
الرجعية هي أن تعلن الحرب على ثقافة مجتمعية بدعوى استعمالها في السياسة كغطاء، وأن تأخذ منها ما يناسبك للدعاية دون حياء.
الرجعية هي أن تكون اقطاعيا في المعنى، ثوريّا في الأسلوب.. بورجوازيا في الفكرة، وبروليتاريا في الصياغة.. أن تكتب القصيدة العموديّة، ثم تعيد توزيع أبياتها لتبدو للقارئ كقصيدة نثرية !.
الرجعية هي أن تعتقد أنك تقدمي حتى النخاع، وأنت لم تغادر بعد خيمة القرن التاسع عشر في الفكر والمنهج، وترفض تطوير الرؤى والمفاهيم.
اليسار اليوم هو رجعية منغلقة على ذاتها، مغتربة عن الواقع.. وتكتفي بتغذية أحلام الماضي المجهضة أصلا.