مقالات

لكم إنسانيّتكم ولنا إنسانيّتنا !

فتحي الشوك
في حين كان آلاف من أهالي مركز أبوكير بمحافظة الشّرقية يشيّعون جنازة الشّاب إسلام مكاوي، أحد التّسعة الّذين تمّ إعدامهم ظلما على خلفيّة مقتل النّائب العام السّابق هشام بركات، بعد ستّة أيّام من تعنّت السّلطات في تسليم جثّته لأهله، كان الرّئيس المصري السّيسي يجيب على أسئلة الصّحفيين في المؤتمر الصّحفي المقام في ختام القمّة العربيّة الأوروبية المنعقدة بشرم الشّيخ ويشرح خصوصيّة مصر مبرّرا انتهاكات حقوق الإنسان باسم القانون وباسم مكافحة الإرهاب. “لكم إنسانيّتكم ولنا إنسانيّتنا”، هذا ما قاله بنبرة متشنّجة، فماذا يقصد بذلك؟
إنسانيّتهم:
تطوّر مفهوم الإنسانيّة في الغرب وتبلور على مرّ العصور من الإغريق حتّى عصر النّهضة ثمّ خلال عصر الحداثة إلى ما بعد الحداثة وقد التصق عضويّا بالعلمنة طارد كلّ بعد إيماني أو غيبي. إنسانيّتهم متحيّزة منذ مرحلة التّأسيس متمحورة حول ذاتها في تجلّ واضح لمركزيّة غربيّة متضخّمة تنظر باستعلاء ودونيّة إلى من يخالفها، فارضة نفسها مرجعيّة ومقياسا في ممارسة لتعسّف ابستمولوجي ودكتاتورية ثقافية لأقلّية لا تمثّل في الحقيقة أكثر من عشرين في المائة من مجموع سكّان المعمورة.
هي في النّهاية لا ترى إلاّ ذاك الإنسان المتشكّل في منظورها، الإنسان كما ينبغي أن يكون حسب فلسفتها الوضعيّة ومنظومتها القيمية والأخلاقية الّتي تجعل من الإنسان مرجعا وحيدا ومجالها وهدفها الحصريين من البحث والمعرفة. والاتحاد الدولي للدراسات الإنسانية (وهو مكون من 117 منظمة من المنظّمات الإنسانية والأخلاقية والعقلانية تنويرية والإلحادية والعلمانية والمنظمات التي تدعو للتفكير الحرّ) يعرّف الإنسانية بأنّها موقف ديمقراطي وأخلاقي يؤكّد على أنّ البشر لهم الحق في إعطاء الشكل والمعنى الّذي يريدونه لحياتهم الخاصّة وتقف على بناء مجتمع أكثر إنسانية من خلال نظام أخلاقي قائم على القيم الطبيعية والبشرية بروح العقل والتساؤل الحرّ من خلال قدرات الإنسان. وهي مناقضة للنزعة الإيمانية حيث لا تقبل وجهات النظر الخارقة للواقع.
رؤية مادّية بحتة مختصرة الوجود في الطّبيعة ونافية لما وراءها، مقصية كلّ من يخالف ذلك، واصمة إيّاه بالتخلّف عن ركب التطوّر الّذي تمثّله وتقوده. هي معاني كبيرة وكلمات برّاقة وشعارات خدّاعة تجد لها كثيرا من المريدين والمروّجين وغالبا ما ترتكب أبشع الجرائم باسم أسمى المعاني. فالإنسانيّة المختطفة غربيا كانت بوّابة لتوسّع ثقافي متوحّش طال بقية الثّقافات الإنسانيّة باسم التنوير والأنسنة و”التحضير” للبرارة المتوحّشين.
باسم الإنسانية ارتكبت أفظع الجرائم على الإنسانية، باسمها أبيد ملايين الهنود الحمر في أمريكا، واستبيحت شعوبا وأشعلت حروبا كان الإنسان المختلف الآخر المستباح والمستضعف حطبا لنارها ووجبة شهيّة للإنسان الغربي النّهم المحتاج لأن يتطوّر ويبقى. والإنسانية بمنطلق المركزيّة الثقافية الغربيّة اقترنت منذ تأسيسها بالعلمنة وقد أمكن لها بناء ترسانة ضخمة من المؤسّسات البحثية والأكاديمية وجمعيّات حقوقيّة تنشط في هذا المجال وتبشّر بتعاليمها وتتحرّك وفق برامجها وخطّها الفكري.
فلا غرابة في أن تكون أحكامها انتقائيّة، تفتقد إلى الموضوعية وتكيل بمكيالين، فهي مثلا تتجنّد لأجل فتاة مراهقة متمرّدة أعلنت إلحادها باسم حرّية المعتقد والضّمير وتغمض عينيها عن عشرات المعتقلات والمختطفات المصريات بسبب لونهنّ وانتمائهنّ، وهي تتحرّك بكلّ قوّة لأجل مثليّ أو مثليّة وتتجاهل إبادة جماعيّة للرّوهينغيا وأخرى تطال الإنسان السّوري، وانتهاكات جمّة لحقوق الإنسان في مصر وفي باقي دول الاستبداد العربي. وهي مستعدّة لأن تمطّط وتوسّع في اختصاصاها لتشمل النّبات والحجر والحيوان وتتغاضى بالمقابل عمّا قد يجري لإنسان لا يدخل ضمن بوتقة تعريفها للإنسان!
نفاق وازدواجية في الخطاب يفسّر أن يستقبل السّيسي في أغلب العواصم الغربية بحفاوة وترحاب وأن يجتمع أكثر من عشرين من قادة أوروبا في القمّة العربيّة الأوروبية في بلد يعتبر قمّة في انتهاكه لحقوق الإنسان. فبينما يتمّ إعدام شباب في عمر الزّهور في مصر، ظلما وعبر لوائح اتّهام مفبركة ومحاكمات صورية تفتقد لأدنى درجات العدالة، يتوافد قادة أوروبّا نحو شرم الشّيخ ويكتفون بتوجيه بعض اللّوم الخفيف لمجرم يتمادى في إجرامه، عتاب من باب رفع الحرج وذرّ للرّماد في العيون، ليفحمهم بردّه: لنا إنسانيّتنا ولكم إنسانيّتكم!
إنسانيّتنا:
إذا كان الغرب قد شكّل إنسانيّته النّابعة من بيئته والمتناغمة مع سيرورته وجعلها محورا، محوّلا المختلف أو الخارج عن منظومته إلى هوامش صفرية تدور حوله وفي خدمته، فهل توجد إنسانيّات أخرى وهل لنا إنسانيّتنا القادرة على دحضه ومواجهته؟ تاريخيّا استفاد الغرب في نهضته من إنسانيّة كانت مشعّة ومضيئة حينما كان سابقا غارقا في دجى الظّلمات، ابتدأت إشراقتها مع مبعث سيّد الكائنات والّذي كانت دعوته بالأساس لتحرّر الإنسان وقيّوميّته واستكمال أنسنته.
فعديدة المواقف الإنسانية الّتي خطّّها الرّسول صلّى الله عليه وسلّم وكذلك صحابته وممّن اتّبع هديه ونهجه، فهذا عمر ابن عبد العزيز يردّ على وال له استأذنه في تعذيب أناس ليعترفوا فيقول: “أعجب من استئذانك في عذاب بشر وكأنّي لك حصن من عذاب الله أو أنّ رضائي ينجيك من سخطه، فمن قامت عليه بيّنة أو أقرّ فخذ بذلك ومن أنكر فاستحلفه وخلّ سبيله، لأن يلقوا الله بخياناتهم أحبّ إليّ من أن ألقى الله بدمائهم”.
إنسانية كانت حاضرة بحضور العرب والمسلمين لتغيب مع غروب شمس حضارتهم. الإنسانية في الإسلام هي نتيجة طبيعية لمشروع متكامل محرّكه وجوهره ومقصده بناء الإنسان ومن الطّبيعي أن تفتقد النّتيجة بتعطيل المشروع أو تهميشه ليستخدم الدّين لإذلال الإنسان وترسيخ الاستبداد.”إنسانيتنا” الّتي يقصدها السّيسي هي أبعد ما تكون عن تلك المشرقة النّاصعة المضيئة بل هي اختزال لكلّ موروث الاستبداد والإذلال، حصاد قرون الانحطاط والظّلمات.
ما فتئ السّيسي يقدّم نفسه كقائد لا بديل له لبلد كان يكتب التّاريخ فصار خارجه، بلد يصوّره على أنّه متخلّف على وشك الانهيار وصندوق ديناميت قد ينفجر في أيّة لحظة في وجه العالم الغربي المتحضّر، وبالمقابل فهو يعرض نفسه كصمّام أمان وخادما أمينا لمصالح الغرب ولربيبته “إسرائيل”. يدعو السّيسي إنسانيتهم بأن لا تشغل بالها بإنسانيته، فأهل مكّة أدرى بشعابها وهؤلاء الرّعاع البرابرة لا يقادون إلاّ بالحديد والنّار فتلك قيمنا، أخلاقنا وإنسانيتنا المتطبّعة بكلّ أشكال العنف والقهر والإذلال والمنتجة ضرورة للجهل والتخلّف والإرهاب! السّيسي وغيره من طغاة الدّاخل في واحة الاستبداد العربي، خبروا نفاق الغرب وعلموا أنّ أنانيّته ومركزيّته المتضخّمة حول ذاته تمنعه من أن يهتمّ حقيقة بغيره إلاّ من باب استغلاله وبمقدار ما يجنيه منه من منفعة وحسبما تقتضيه مصلحته.
لذلك من العبث المراهنة على إنسانيتهم لإنقاذ إنسانيتنا المفقودة والّتي لن تتحقّق إلاّ بمحاولة جذرية لتغيير ذواتنا وواقعنا لنتحرّر من استبدادنا واستبدادهم. “لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ” (الآية 11 من سورة الرّعد). هي معركة وعي طويلة وقاسية يمكن الاستلهام فيها عبر العودة لروح ومقاصد الإسلام الّذي كان ولا يزال هدف مشروعه بناء وتحرّر الإنسان وتحقّق إنسانيّته.
مدونات الجزيرة

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock