مقالات

محمد كشكار يُجامِلُ والعِلمُ لا يُجامِلُ !

محمد كشكار
مواطن العالَم، اختصاص تعلّمية البيولوجيا (Didactique de la biologie)
إجراءاتٌ تربويةٌ كتبتُ ونشرتُ عنها منذ 2008 من أجل إصلاحِ المنظومةِ التربويةِ: لاحظتُ أخيرًا أن الفاعلينَ التربويينَ بدؤوا يقتنعونَ بِبعضِها (دون تواضعٍ، لا أدّعي أن مقالاتي كانت هي السببُ).
مقدمة: حوالي عام 2000، شاركت في مؤتمر الديداكتيك (فلسفة التعلّم) في سوسة، حضر فيه الفرنسي أندري جيوردان، عالِم التربية الشهير، أستاذي وصديقي أيام الملتقيات: أخذ مكان عالِم النمو الذهني جان بياجي على رأس مخبر الإبستمولوجيا في جينيف، له من كل شهادة شهادتين ( deux maîtrises + 2 DEA + 2 doctorats)، ألَّفَ في علوم التربية ثلاثون كتابًا.
سألته: ألا ترى أن ما ندرسه من علوم هو شيءٌ بعيدٌ عن واقع مدرستنا؟
بلطفٍ وثقةٍ أجابني: سوف تراه يُطبّقُ بعد خمسين عامًا!
مرّ على اللقاء عشرون فقط وبدأتُ أتلمّسُ عُمقَ فراسته وبدأت أشم رائحة التغيير في منظومتنا التربوية المترهّلة وإليكم بعض المؤشرات، صحيح قليلة لكنها مبشرة بمستقبلٍ لتونسَ أفضلُ:
1. الإصلاحُ الأولُ: حَذْفُ الإعداديات والمعاهد النموذجية العمومية في كامل أنحاء الجمهورية التونسية حذفًا تامًّا وتحويل ميزانياتها الضخمة لإصلاح البُنَى التحتية في المؤسسات التربوية العمومية، وذلك لسببين اثنين لا أكثر:
• أولاً، حسب عالِم الوراثة العبقري ألبير جاكار فإن التلميذَ عصيٌّ عن التصنيف إلى ذكي وأقل ذكاءً. وحسب عالِم البيداغوجيا فيڤوتسكي فإن الذكاءَ يختلف ولا يُقاسُ وهو كفاءةٌ متحوّلةٌ ومحتمَلةُ التطوّر أو التراجع حسب المحيط والمعلم والأقران.
ثانيًا، أنشِئت هذه الإعداديات والمعاهد النموذجية العمومية بغرض تكوين نخبة من التلامذة “الأذكياءِ” لخدمة البلد، تلامذة سبّقنا فيهم الخير، ميّزناهم برعايةٍ وعِنايةٍ وفضّلناهم على أبنائنا تلامذة المؤسسات التربوية العمومية “الأقل ذكاءً”، صرفنا عليهم من أموالنا، نحن دافعو الضرائب الموظفون والعمال الفقراء، آثرناهم على أنفسنا وبنا خصاصةٌ، وللأسف أغرتهم المادة بعد التخرّج واستقروا في الخارج. نحن نزرعُ ونسقِي والغربُ الجشع يجني الثمرة دون عَناءٍ.
بلغني أن الثقة الزائدة في هذه المؤسسات الطفيلية بدأت تهتز في ذهن أصحاب القرار في وزارة التربية وبدؤوا يفكرون في التخلي عنها نهائيًّا وهي للعلم غير موجودة في دول أفضل النظم التربوية كفنلندا. شيءٌ أفرحني.
2. الإصلاحُ الثاني: الكَفُّ عن الإضرابات في وزارة التربية وتحييدُ التلميذ عن الصراع الدائر بين نقابة الثانوي ووزير التربية: التلميذُ محورُ العملية التربوية، عصَبُها ومحركُها الأول، أصبحَ، هذه السنة والتي سبقتها، وقودَ معركة لا ناقة له فيها ولا جمل، عُوقِب وحُرِم من الدرس وهو لم يقترفْ أي ذنبٍ، لا في حق الأول ولا في حق الثاني. أخيرًا وفي برنامج على قناة نسمة، سمعتُ اليعقوبي، الكاتب العام لنقابة الثانوي يتباهى بالعدولِ عن الإضراب كوسيلة نضالية وتوظيف وسائل أخرى ورأيتُ الأساتذة يُدرِّسون ثم خارج أوقات العمل يتظاهرون، يحتجون وفي الوزارة يعتصمون. شيءٌ أفرحني (مسألة حجب الأعداد أو عدم إجراء الامتحانات سوف تُناقَش في مقامٍ آخرَ).
3. الإصلاحُ الثالثُ: التقليلُ أكثر ما يمكن من إجراء الامتحانات التقييمية الجزائية والتركيز على التكوين والتكثيف من التقييمات التكوينية. سمعتُ اليعقوبي أيضًا وفي نفس البرنامج على قناة نسمة بعد إمضاء الاتفاق مع الوزير، سمعته يقول: في الثلاثي الثاني 2018-2019 سنلغِي فروض المراقبة (تقييم جزائي) ونركّز على التكوين، وسيكون للتكوين الأولوية المطلقة. شيءٌ أفرحني.
خاتمة: أتمنى أن أسمع قريبًا مؤشرات أخرى تبشر بالتغيير الذي يتمثل حسب رأيي في حذف سِلكَين “مهمَّين” من أسلاك التعليم وهما:
سلك المتفقدين البيداغوجيين، سلك طفيلي، لا وجود له في الجامعات (وهل أستاذ الثانوي أقل كفاءة في ميدانه حتى نراقبه؟)، ولا وجود له أيضًا في أفضل الأنظمة التربوية مثل فنلندا (أكيد) وكندا (سمعت). الحجج سبق لي وأن نشرتها منذ 2008.
سلك القيمين، سلك طفيلي أيضًا، لا وجود له في الابتدائي (وهل تلميذ الابتدائي لا يحتاج إلى تأطيرٍ؟) ولا وجود له في أمريكا حيث الأستاذ يقوم بالمهمة بالتناوب. الحجج سبق لي وأن نشرتها منذ 2008.
تصوروا لو تمّت كل هذه التغييرات جميعًا ووفرنا كل الأموال التي كانت تُصرفُ على هذه المؤسسات ووظفناها في إصلاح البُنَى التحتية للمدارس العمومية. احلموا فالحلم ليس حرامًا، وأحلام اليوم قد تتحقق غدًا وإن غدًا لناظره قريبٌ!
اعتذارٌ صادقٌ، أوجهه إلى تلامذة النموذجي والقيمين والمتفقدين ولي فيهم أصدقاءٌ كُثْرٌ أحبهم وأحترمهم وبكل لُطفٍ أقولُ لهم: المسألةُ مسألةٌ علميةٌ ومنهجيةٌ وإستراتيجيةٌ وليست ثوريةً ولا مزاجيةً، فلا تغتاظوا منّي أرجوكم خاصة وأنتم تعونَ جيدًا أنني لستُ من أصحاب القرار وأن مثل هذه الإجراءات لن تمس المباشرين منكم ولن تُطبّقُ إلا بعد جيلٍ أو جيلَين، لذلك أكرر، المعذرة ثم المعذرة إن أسأت إلى أحدٍ منكم دون قصدٍ ودون حِقدٍ.
إمضاء مواطن العالَم
أنا اليومَ لا أرى خلاصًا للبشريةِ في الأنظمةِ القوميةِ ولا اليساريةِ ولا الليبراليةِ ولا الإسلاميةِ، أراهُ فقط في الاستقامةِ الأخلاقيةِ على المستوى الفردِيِّ وكُنْ كما شِئتَ (La spiritualité à l`échelle individuelle).
“النقدُ هدّامٌ أو لا يكونْ” محمد كشكار
“المثقّفُ هو هدّامُ القناعاتِ والبداهاتِ العموميةِ” فوكو
“وإذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إذنْ إلى فجرٍ آخَرَ” جبران
لا أقصدُ فرضَ رأيِي عليكم بالأمثلةِ والبراهينَ بل أدعوكم بكل تواضعٍ إلى مقاربةٍ أخرى، وعلى كل مقالٍ سيءٍ نردُّ بِمقالٍ جيّدٍ، لا بالعنفِ اللفظيِّ.
تاريخ أول نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، الاثنين 18 فيفري 2019.

André Giordan
André Giordan

wikipedia
 

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock