الباجي والنفّة
زهير إسماعيل
كان أحدهم من عامّة النَّاس راسخ الإيمان لا تفوته صلاة وكان نفّافا وكان تعلّقه بالنفّة (نفّة الرمث) وتقاليدها عجيبا لا يشبهه إلاّ تعلّق الباجي بالثورة وأهدافها.
وأشدّ ما يكون سلطان النفط عليه في شهر رمضان. كان لا يجرؤ أن يفطر خوفا من الله كخوف الباجي من أن يشك الناس في إيمانه بالثورة وفي عزمه على إخراج تونس من عنق الزجاجة.
صاحبنا النفّاف، وتحت وطأة النفّة في رمضان، لم يجد بدا من أن يسلك مسلك بني إسرائيل مع ما حرَّمه الله عليهم من ملذات الدنيا، وصاحبنا أميّ لا علم له بقصص بني إسرائيل إلاّ ما تسرّب منها إلى الحكي الشعبي وثقافة الناس الشفوية. فقرّر أن يجتهد في تخطّي المانع الديني ويتحيّل عليه تحيّلَ الباجي على النّاس وحملهم على “الفوت إتيل” واستخدام كل ما يمكّنه من العودة مع قديمه إلى الحكم، بعد انقطاع وجيز عن الحكم بعد الثورة لم يدم أكثر من سنتين.
فما حيلة صديقنا النفّاف؟
كان للنفّٰاف صبية مشاغبون في غاية الحيوية والميل إلى المشاكسة والعناد وكسوحيّة الرأس، إذا قلت لهم شمالا ساروا يمينا. وكان صاحبنا يعرف هذه الخصال فيهم، ويضيق بها. ولكن الأمر مختلف في شهر رمضان و”وقوايله” البطيئة، فكان كلّما عصفت به حاجة دماغه إلى “النيفوتين” (قياسا على النيكوتين)، ولم يعد له قدرة على المقاومة، ينادي الصبية ويقول لهم ناهيا : نقْصُوا من الهرج نحب ننعس شوي، لكن تمشوش تحطّولي التفة في خشمي يا كلاب، راني صايم. ويعيد تحذيره هذا مرارا ويؤكد على المكان المستهدف (خشمي)، كأنّه يرشدهم إلى المكان بدقة كي لا يخطئوه… ويتظاهر بالنوم، منتظرا قليلا منها في أنفه، راضيا باستنشاق عبيرها الذي يدير الرأس، وإنْ كان صاحبنا تعوّد، في الأيام العادية على وضع “كالة” في الشفة السفلى وكالة في الشفة العليا حتى يرى الديك حمارا وحشياًّ، وتسري في بدنه “توزويزة” مع دوار لطيف…
هكذا كان دأبه في أغلب أيام رمضان حين يشتد وجده إليها، يتظاهر بالنوم، وينتظر…
ذكًّرني الباجي في علاقته بإضراب 17 جانفي بصديقنا النفّاف. فقد كان للباجي حديث عن الإضراب في احتفالات عيد الثورة، وقد تفاجأ الجميع وهو يصرّ على استدعاء الخميس الأسود 78، مظهرا خوفه وهلعه وخشيته من أن يكون إضراب يوم الخميس 17 جانفي 2019 كالخميس الأسود وما كان فيه من دماء وخراب. وأطال الباجي في كلمته الوقوف عند الإضراب العام في 78، مؤكدا على سعيه مع ثلة من “الديمقراطيين” قبل الديمقراطية على احتواء الوضع، كل ذلك ليقنع بخوفه من الإضراب. ولكن الجميع خرج وهو لا يعرف هل الباحي مع الإضراب أم ضدّه.
الباجي وهو رئيس الجمهوريّة كان بإمكانه أن يساهم في تجنب الإضراب، وقد كانت جولات الطبوبي إليه مكوكية.
ولكنه أبى، كلمته في ذكرى كشفت حقيقة موقفه، فالخطاب كما يؤكد الإنشائيون “يفضح هويّة المتلفّظ به”. كانت نقراته على المصدح، وهو يهمّ بالكلام ، كنقرات النفّاف على غطاء حكته، قبل فتحها، لتستوي المادة داخلها ويسهل أخذها برشاقة بين الإبهام والسبّابة.
انتظر الباجي أن تضع له الجبهة، من خلال خطها داخل المكتب التنفيذي، النفّة في “مناخيره”، ونفّة الباجي هي أن تعمّ الفوضى ويتحول الإضراب العام إلى صدام شامل واليوم إلى خميس أسود، وتكون نتيجة هذا السياسية رحيل الشاهد وإسقاط الحكومة إلى غير ذلك من التداعيات على البلد والانتقال الديمقراطي.
ولكن لم يكن شيء من ذلك، وكان التجمع العام الضخم في ساحة محمد علي سلميا م وكذلك المسيرة الحاشدة في سارع الثورة، رغم محاولات تحويلها باتجاه القصبة وتوتير الأوضاع، وحان التأطير الأمني عاليا وأنيقا. ويبدو أن مجموعة فاعلة في المكتب التنفيذي منعت رغبة الشفي والطاهري في التوريط الكامل للاتحاد في تصادم لن يكون فيه رابح، والخاسر هو مسار تاسيس الديمقراطية والاشتباك الاجتماعي تحت سقف الدستور هو عنوان الثورية في سياقنا إن لم يكن هو العنوان الوحيد.
لكن خسارة الاتحاد والمركزية النقابيّة حاصلة، لأن السؤال الذي يواجهها بعد أن “ذهبت إلى الأقصى”، ماذا بعد الإضراب العام؟
لقد سقطت يوم الإضراب فكرة إسقاط النظام السياسي الجديد بأدوات الدولة (هزيمة الباجي مرحليا)، وانكشفت (بالنسبة إليّ مكشوفة من قبل) القوة الوظيفيّة التي لم يكن لها من مهمة سوى إنقاذ منظومة قديمة متهالكة ولكن باسم خطاب ثوري، وهذه القوة عند الثوريين (لا ثوريّة خارج سقف الدستور والاشتباك الديمقراطي) هي في حقيقتها “ثورة المنظومة القديمة” (بعبارة صديقي الشهيدي) لعجز القديمة عن خطاب الثورة والحداثة.
وهذه القوة الوظيفيّة هي التي أنقذت النظام مع بن علي حينما تهالك نظام بورقيبة في 87 (صار رموزها عنده جلادين بالفكر والساعد)، وتنقذه وهو في قمة تهالكه بعد انتخابات 2011 التأسيسية (نجيب الشابي، الاتحاد من أجل تونس، جبهة الإنقاذ، اعتصام الرحيل، قطع الطريق في انتخابات 2014).
الجزء الواعي من المكتب التنفيذي (المباركي والطبوبي وجراد..) رفض أن يضع للباجي المنتظِر النفّة في خياشيمه وعوّضها له بطابع سكّر يحلّي به ما يجده من مرارة الخيبة. فكان الحشد في ساحة محمد علي وفي شارع الثورة بهيّا مهيبا. ولكن الباجي لن يتنازل عن “حشيشته” وقد يطلب من الوظيفيّة ومن كل من عنده “بريكية” أن “يشَعِّلَّه” ڤارو أو سيڤار… مازال في انتظاره كنفّافْنا العتيد…
لا تاخْذِي النفّٰاف لا تِمْشِيلَه /تضِيعْ حُكْتٓه يشَوّم عليك الليلة