الإتحاد و"الكرسي الكبير"
هادي بن علي
تأملات في السياسة ..
في الأوضاع المزرية نستحث الخطى للبحث عن حلول. يعلم السياسي أن مسافة الألف ميل تبدأ بخطوة. تلك الخطوة هي مجرد الإحساس بإمكانية الحل وليست السياسة في عمقها إلا صناعة للأمل. الأمل يجسده مناخ من الإيجابية التي يرافقها الانتظار ثم يفترقان بتقدم اليأس أو بمزيد من التفاؤل.
في فيلم “المنسي” لعادل إمام يذكر وهو يقدم عرضا أمام يسرا أنه لا يأخذ شيئا ليس له ولكنه مع ذلك يمكن بعملية ذهنية أن يأخذ ما يريد بما في ذلك التطلع إلى “الكرسي الكبير” وقد صعد بثقة في درجات السلم إلى أعلى مجرّبا الخطاب الرئاسي المنتصر “الديمقراطية بمعناها ومن غير معناها…”.
حين يحضر اليأس يمكن أن يتحول ما نريد ونرغب إلى أحلام اليقظة. هناك يمكنك أن تتجول بخيالك حيثما تريد وليس مهمّا أن يكون التجوال في المنطقة الحرجة. لكن الأهم من كل ذلك أن بينك وبينها في الواقع أمد بعيد يشبه المستحيل. وحين تنتبه إلى ذلك تتقدم خطوات إضافية إلى اللاجدوى القاتلة. ولذلك يخترق السياسي الواقع ويفتح على ضوء في نهاية النفق. قد يكون ذلك الضوء ضائعا وأثرا لنجم قد هوى من سنوات ضوئية وقد يكون صادقا ولكن الأهم أن يكون أملا وهو كاف لنعيش فترة إضافية بشيء من السعادة المشتركة.
في الراهن اليومي، نعايش اشتباكا بين الحكومة والإتحاد العام التونسي للشغل ونحن ضمن ذاك الاشتباك أكنّا مع هذا الطرف أو ذاك الطرف فغالبا ما وجدا ليشتبكا أكثر من أن ينسجما . و لعلنا نخشى اشتباكهما و نخشى انسجامهما على السواء.
تقدم الحكومة بنجاح ألف سبب ليحتج الناس على سوء ما نحن فيه. ويقدم الإتحاد عرضا للقوة فيعلن نفسه “أكبر قوة في البلاد” “ولا يقدر علينا أحد” بعبارة مهذبة للأمين العام. مثل هذا الشعور كاف ليوقف كل شيء فنحن في أزمة منهجية خانقة. الأقوى نطلب منه ولا نطلب به ولكن ذلك يحدث فيطمع أن يزيد ولعلها خطوة نحو “الكرسي الكبير” وقد أُعلنت صريحة. قد يصل مرشح الاتحاد إلى الرئاسة في القصبة أو قرطاج مع أنني أستبعده ولا أتمناه ولكنها تجربة جديرة بالتوقع و التخيل. سيصل المرشح الإتحادي إلى “الكرسي الكبير” وأولى خطواته أن يفاوض صندوق النقد الدولي وأن يعيد سيرة السلف بل سيكون مضطرا للكشف عن نواياه أثناء الحملة وإحراجات الصحافة في الداخل والخارج وسيكون عليه أن ينسى ما حفظ كما حدث مع أبي نواس وهو يطلب ناصية الشعر.
في مناسبات سابقة سئل “حمة الحمامي” الناطق باسم الجبهة الشعبية عن البدائل فأجاب برفض تسديد الديون. كانت فكرة ثورية معتّقة من ستينات القرن الماضي قبل أن تحدث التحولات العميقة مع بداية حقبة العولمة. لم ينتبه أحد إلى هذا التصريح في دوائر الإقراض الدولي. وكان يمكن أن يحدث هذا الانتباه لو أن الجبهة الشعبية على خطوة لاستلام الحكم أو هي تحكم فعلا، وعندها كنّا سنعاين ثمار ذلك التصريح بقسوة بالغة. ولذلك لم يؤخذ على محمل الجدّ. ولكن السؤال الدائم قبل سؤال الكرسي والقرار، أي بدائل ممكنة ؟؟
يشرّع الإتحاد العام التونسي للشغل لنفسه إمكانية اتخاذ خطوات سياسية من التجربة التاريخية فقد كان منذ لحظة تأسيسه متجاوزا للملف الاجتماعي. لم تمض سنة على ذلك حتى كان مؤتمر ليلة القدر ومن عنوانه ما يعرف بتكتل القوى الوطنية والتي قرأت الوضع الداخلي والخارجي وطالبت لأول مرة بالاستقلال من المحتل الفرنسي. ثم كان الإتحاد ممثلا في المجلس التأسيسي ثم لاحقا في فرص كثيرة ضمن ما يعرف بالجبهة القومية مع الحزب الاشتراكي الدستوري داعما ومشاركا. وربما كانت الفترة الأكثر حرجا له هي ما قبل الثورة ومساندة منهجية لابن علي. لم ينكر القادة الحاليون للاتحاد ذلك في تصريح لسامي الطاهري واعتبرها مرحلة لإعادة التقييم وهذا أمر إيجابي رغم خطاب التوتر يوم الإضراب العام. أي أفق ؟؟
ظهر واضحا أن المراهنة على الإصلاح السياسي ليكون مدخلا لبقية الإصلاحات بما يفرضه من استقرار ضروري لبقية الملفات خيار مرتبك فبتنا نمر من انتخابات إلى أخرى دون حصول حلحلة في أوضاع الناس. سنجد حججا كثيرة لتفسير ذلك ولكن الأهم فيها هو تراجع السياسة منذ انتخابات 2014. بل لم يعد أي حزب محتاجا ليكون له برنامج فقد افتكت كل الملفات ومارس السياسيون الفرجة وما سيفعلونه هو حالة تفاوضية جديدة. قد قيل مع كل ملف أن أهل القطاع هم من سيقومون بالإصلاح وما بقي أمام السياسيين في أسعد الأحوال الوعد بنقطتي نمو أو نقطتين وربع. وسيكون لزاما أن تكون النقطتان لصالح القطاع العام على حساب القطاع الخاص ولاحقا سيكون العكس. وما نعانيه الآن ويثور لأجله الإتحاد العام التونسي للشغل كان قد زرعه بنفسه في فترة الترويكا. كان أمامنا أن نجمّد الأسعار عوض الزيادة في المرتبات ولكن ذلك لم يحدث. ارتفعت الأسعار آليا مع كل زيادة في الأجر واضطرت الدولة إلى الاقتراض ولم يكن ممكنا أن تكون تلك القروض منتجة فارتفع التضخم وتراجع التصنيف وتعقدت الأزمة. حدثت إضرابات وطنية وجهوية وقطاعية لا تحصى بل إن عددها كان كافيا لاسقاط الدولة. كان ذلك ثمن إقصاء الترويكا من الحكم أكثر من القلق على أوضاع الشغيلة. الآن نحن نجني تجاذبات تلك المرحلة.
كنا نظن أن الإضراب العام هو أقصى ما يمكن بلوغه من الشجرة التي صعدها ولكن ذلك لم يكن دقيقا. فقد أقرت الهيئة الإدارية إضرابا عاما بيومين في 20 و21 فيفري ولست واثقا أنه خيارها الأقصى أم مازال في الجبة ما يمكن الإفصاح عنه. فكرة الأقصى قد تتحول أيضا إلى الطرف الحكومي وهذا أمر مجهول العواقب ونحن نتقدم نحو سنة دراسية غير واضحة المعالم مثلما أنها غير واضحة لمجمل البلاد وهي تتردد أمام مواعيد سياسية لا تخفى الرهانات حولها.
الإتحاد يرفع شعار “دعني أبادرها بما ملكت يدي” ضمن اللعبة السياسية المغرية لهم والمشوقة للمتابعين فيما نحمل نحن قلقنا الذي هو موضوع استثمار لا شك…