14 جانفي 2011 14 جانفي 2019 سراب الشعور بـ: "ما قبل الثورة خير"..!!!
عبد اللّطيف درباله
في مثل هذا الوقت من يوم 14 جانفي من سنة 2011.. ابتعدت طائرة الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي عن سماء تونس بآلاف الكيلومترات.. في ظلام دامس أشرق به ليلنا برحيل الديكتاتور عن الحكم.. وسقوط نظام ديكتاتوري مستبدّ امتدّ طوال عقود ما بعد الاستقلال.. وورثه بن علي عن بورقيبة..!!
البعض يعتقد بأنّ وضع تونس اليوم هو أسوأ من وضعها قبل الثورة..
ويعتقدون أنّ بقاء بن علي كان أفضل ممّا آلت الأمور إليه اليوم..!!
بل أنّ البعض أصبح يحنّ حتّى لأيّام الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة..
ويعتقد هذا البعض أنّ عهد بورقيبة كان أفضل من عهدي بن علي وما بعد الثورة..!!
الحقيقة أنّ كلّ ما تعانيه تونس اليوم.. من سوء أحوال في السياسة والاقتصاد والمجتمع.. هو أصلا نتاج لأخطاء بورقيبة وبن علي..!!
ومن لا يفرّق بين “السبب” وبين “النتيجة” لا يستطيع أبدا أن يفهم ذلك..!!!
فالثورة ليست هي “السبب” في ما نعانيه اليوم..
بل أنّ الثورة نفسها كانت “النتيجة” لسياسة بن علي الخاطئة..
وما نعانيه اليوم هو بدوره “نتيجة” لسياسة ديكتاتوريّة بن علي وبورقيبة الذين حرمونا من الديمقراطيّة.. ومن تأسيس دولة حرّة وذكية ومتقدّمة..
و”الثورة” ليست هي “السبب” في سوء أحوالنا اليوم..
لكنّ “السبب” هو “ما قبل الثورة” نفسه..!!
فالسبب في أغلب ما تعيشه تونس بعد الثورة هو السياسة الخاطئة للأنظمة الديكتاتورية التي لم تسمح سابقا قبل الثورة بحياة سياسيّة ديمقراطيّة حرّة تشهد تداولا على السلطة.. وتدرّب مختلف النخب السياسيّة على الحكم وعلى إدارة الدولة.. وتجعل حتّى الطبقة العليا من الإداريّين في الدولة وفي الحكومة من ألوان وأطياف سياسيّة مختلفة..
فعلى العكس من ذلك.. احتكر الحزب الحاكم في عهدي بورقيبة وبن علي السلطة والحكم والإدارة وكلّ المراكز الحيويّة.. وحرم المعارضين.. أي جزء كبير من النخبة السياسيّة.. من المشاركة في ذلك..
لذا.. عندما انهار النظام الديكتاتوري وأبعد أعضاء الحزب الحاكم السابق عن السلطة وعن الحكومة بعد الثورة.. لم تكن توجد في تونس طبقة سياسية من المعارضة لها الخبرة اللاّزمة.. وقادرة على إدارة الشأن العام وتسيير البلاد..
والحلّ لا يكمن طبعا في إعادة تمكين المسؤولين السياسيّين من أعمدة النظام الديكتاتوري قبل الثورة من حكم البلاد مرّة أخرى بعد الثورة بدعوى خبرتهم وكفاءتهم المزعومة..!!
ففي كلّ الحالات.. فإنّ السياسة الاقتصاديّة والماليّة والإجتماعيّة والثقافيّة لبن علي ولبورقيبة. . كانت بدورها فاشلة.. حتّى وإن حقّقت في بعض الأوقات ما ظهر أنّه نجاح نسبيّ عبر طفرة عابرة ومحدودة في الزمن وفي الحجم..
وفشل تلك السياسة كان حتميّا.. وواضحا.. لكن في الدول.. لا تظهر أخطاء السياسة نتائجها الكارثيّة غالبا إلا بعد وقت طويل قد يستغرق أحيانا عشرة أو عشرين سنة.. أو أكثر..
لذا.. لو تركت هذه الأنظمة لفترة أطول.. لتأزّمت حالتها بالتأكيد.. ولانهارت بمفردها وتلقائيّا.. ولو بعد حين..
وحتّى لو لم تحصل ثورة في آخر سنة 2010 ويسقط نظام بن علي في 14 جانفي 2011.. لشهدت تونس تحت حكم نظام بن علي نفسه أزمة خانقة..
بل إنّ الثورة نفسها كانت ردّ فعل على تأزّم الأوضاع في عهد بن علي..!!
ولا أدلّ على ذلك من أنّ نسبة البطالة الحقيقيّة كانت تناهز حتّى قبل الثورة 20%.. وكان عدد البطّالين يفوق 800 عاطل عن العمل نسبة كبيرة منهم من الجامعيّين.. في بلد لم يكن يتجاوز عدد سكّانه حينها 11 مليون مواطن.. يقيم أكثر من مليون منهم خارج البلاد..!!!
وفي عهد بن علي اتّضح بأنّ نسبة الفقر كانت تشمل حوالي 25% من الشعب التونسي.. في حين كان أقلّ من 300 شخص من أعضاء العائلة الحاكمة التي تضمّ إضافة إلى الرئيس وزوجته وأبنائهما وأصهارهما والأشقّاء وأبنائهم.. يسيطرون على 25% كاملة من الاقتصاد الوطني بحسب تقديرات لمؤسّسات مالية عالميّة بعد الثورة..!!
إضافة إلى ذلك فإن عهد بن علي شهد أولى موجات الهجرة السريّة (“الحرقان”) على متن قوارب الموت إلى إيطاليا ومنها إلى أوربّا.. وذلك لسنين طويلة قبل الثورة.. نتيجة للشعور بانسداد الأفق أمام الشباب بتونس..!!
وفي عهد بن علي انتشرت الأحياء القصديريّة والفقيرة في مختلف أنحاء العاصمة تونس نفسها.. والتي تضمّ مئات الآلاف من المواطنين المقيمين في ظروف تتّسم بالفقر وغياب البنية التحتيّة والإكتظاظ وغيرها..
وفي عهد بن علي انتشرت محلاّت الملابس المستعملة (“الفريب”) على نطاق واسع في انعكاس لتراجع القدرة الشرائيّة للمواطنين..!!
وفي عهد بن علي ارتفعت نسبة الجريمة والإجرام وادمان وتهريب المخدّرات و”البراكاجات” واختطاف الهواتف النقالة وحقائب اليد من أيدي المواطنين في قلب العاصمة والأحياء الكبرى وسائر مراكز المدن..!!
وفي عهد بن علي أصبحت المناظرات الرسميّة للوظائف في الدولة.. بما فيها “الكاباس” الخاصّة بالأساتذة.. لا ينجح فيها أغلب المترشّحون إلاّ بالرشوة.. أو بالانتماء للحزب الحاكم “التجمّع”.. أو بوساطات من أشخاص متنفّذين..!!
وفي عهد بن علي أصبحت أغلب المباريات الرياضية تنتهي بتبادل العنف وبتكسير الملاعب وتهشيم واجهات المحلاّت والسيّارات في محيط الملاعب والطرق المؤديّة إليها..!!
وفي عهد بن علي كبرت وتعملقت وأثريت مافيا التهريب عبر الحدود.. وصار الاقتصاد الموازي والهامشي يمثل حوالي نصف النشاط الاقتصادي في البلاد..!!
وفي عهد بن علي تواصلت موجات وحركات النزوح من المدن الداخلية والجنوبية إلى مدن الساحل نتيجة التهميش التي تعانية تلك المدن وانعدام التنمية بها وتعطّل الحركة الاقتصاديّة تماما فيها..!!
وفي عهد بن علي أصبح المشغّل الأكبر للشباب في ولايات مثل مدنين وتطاوين وقفصة وتوزر والقصرين والكاف وجندوبة هي “الكونترا”.. لعجز الحكومة عن دمج شباب تلك الجهات في الدورة الإقتصاديّة العاديّة..!!
وفي عهد بن علي بقي مواطنو 13 ولاية بالجنوب وبالشمال الغربي وبالجنوب الغربي يعالجون من أمراضم الخطيرة ويجرون عمليّاتهم الجراحيّة ويلدون.. بمستشفيات المدن الساحليّة.. لافتقاد مستشفياتهم للأطباء وللمرافق وللأجهزة والمواد الطبيّة..
وفي عهد بن علي انتشر الفساد وصارت الرشوة والمحاباة والمحسوبيّة والسرقة والاستيلاء على المال العام والتلاعب بالصفقات العموميّة.. أمورا عاديّة تحدث كلّ يوم على جميع المستويات..
وفي عهد بن علي زمن دولة “الأمن والأمان” المزعومة كانت أحياء بكاملها تنهض صباحا على انقطاع الهاتف فيها.. وأحيانا حتّى الكهرباء.. نتيجة سرقة كيلومترات كاملة من كابلات النحاس الثمينة من قبل عصابات تهريب مرتبطة ببعض أفراد العائلة الحاكمة التي هي فوق القانون..!!
وفي عهد بن علي أصبح أيّ فرد صغير في العائلة الحاكمة ولو من بعيد مليونيرا من الصفر.. دون كثير تعب أو اجتهاد أو نجاح خاصّ.. في حين يرزح ملايين التونسيّين تحت الفقر.. وتعيش النسبة الكبرى من الطبقة المتوسّطة “بحبوحة” من العيش ظاهريا فقط بفضل قروض بنكيّة (قروض الاستهلاك والسيّارة والمنزل..) أصبحت غير قادرة على الخروج منها أبدا..!!
وفي عهد بن علي الذي يتغنّى به البعض الآن انتشرت مقولة “تقرا ما تقراش .. مستقبل ما ثمّاش” كتلخيص لمأساة ومشاعر الشباب المتعلّم في دولة متأزّمة..!!
لكنّ ذاكرة التونسي تنسى سريعا عندما يضيق به الحال..!!
والإعلام الموجّه يعمل على دمغجته وتغليطه..!!
وحتّى عهد الحبيب بورقيبة لم يكن ناجحا ولا ورديّا كما يحاول البعض تسويقه للّعب على الحنين للقديم و”النوستلجي” للزعيم العظيم الملهم العبقري.. لربح شعبيّة زائفة على حساب صيته..!!
فعهد بورقيبة كان فاشلا اقتصاديّا واجتماعيّا وسياسيّا بكلّ المقاييس الموضوعيّة.. كما تثبته الوقائع الدامغة..!!
فمثلا انتهج بورقيبة طوال عقد الستينات سياسة الاشتراكية التي كانت “موضة” عالميّة انتشرت في الكثير من الدول العربيّة والإفريقيّة تحت تأثير الحركات اليساريّة والشيوعيّة الدوليّة..
وكلّف بورقيبة وزيره الأوّل أحمد بن صالح بتنفيذ تلك السياسة وأعطاه خمس الحكومة..
وانتهت تلك الفترة من تاريخ تونس باعتراف بورقيبة بفشل “سياسة التعاضد” كما سميّت.. وأوقفها.. وحبس وزيره بن صالح بالسجن.. قبل أن يهرب للخارج..!!
وفي السبعينات.. ومع صعود النفوذ الغربي والأمريكي.. وصعود وسيطرة النموذج الإقتصادي الرأسمالي.. طبّق بورقيبة سياسة ليبراليّة جديدة.. وأوكل إلى وزيره الأوّل الهادي نورة تنفيذ سياسة الانفتاح والسير في اتجاه نظام رأسمالي..
لكنّ تلك الحقبة خلقت أزمة اجتماعيّة حادّة انتهت باضطرابات عماليّة تجسمّت في ما عرف ب”الخميس الأسود” مع الإضراب العام يوم 26 جانفي 1978.. والذي انتهى بطريقة دمويّة بعد أعمال شغب واسعة..
وقد قتلت قوّات الأمن والجيش عشرات (وربّما مئات) المواطنين بعد أن أوشك النظام على الإنهيار..!!
وانتهى الأمر بالوزير الأول الهادي نويرة إلى الإصابة بجلطة دماغيّة أنهت مهامه تحت لامبالاة تامّة من بورقيبة الذي اعتبره مسؤولا عن ذلك الفشل كعادته في تحميله المسؤولية لغيره من وزرائه..
ونتيجة لسوء الأوضاع المعاشيّة في نهاية السبعينات تفاقمت النقمة الشعبيّة على نظام بورقيبة وبدأت حركات المعارضة العماليّة واليساريّة والاسلاميّة تشهد اهتماما متصاعدا وانتشارا بين الشعب والشباب خاصّة..
مع بداية الثمانينات جاء بورقيبة بمحمّد المزالي وزيرا أوّلا جديدا في محاولة لتحسين الأوضاع.. ووضع حدّ للغليان الشعبي.. خاصّة بعد تزييفه لانتخابات 1981..
لكنّ الأزمة الإقتصاديّة والإجتماعيّة والسياسيّة تفاقمت.. وبلغت ذروتها في ما عرف باسم “ثورة الخبز” يوم 4 جانفي 1984 التي اندلعت فيها احتجاجات شعبيّة عارمة تحوّلت إلى أعمال شغب واسعة.. تحتاج فيها بورقيبة مرّة أخرى لتدخّل الجيش ضدّ الشعب لإنقاذ نظامه..
وكانت تلك الثورة الشعبيّة قد اندلعت تلقائيّا بعد أن عمدت الحكومة إلى الزيادة بطريقة مشطّة في أسعار الخبز والمواد الأوليّة الغذائية المدعومة.. في محاولة لرفع الدعم لإنعاش خزينة الدولة المفلسة..!!
لكنّ الأوضاع تدهورت أكثر..
وفي سنة 1986 عزل بورقيبة وزيره الأول محمّد مزالي وجاء برجل اقتصاد هو رشيد صفر مكانه في محاولة لانقاذ البلاد من الإفلاس الذي ظهرت مؤشّراته القويّة..
وحبس بورقيبة وزيره الأول المزالي في منزله استعدادا لمحاكمته.. قبل أن يهرب إلى خارج البلاد..
واعترف بورقيبة بذلك ضمنيّا.. ومرّة أخرى بفشل سياسته وخياراته..!!
لكنّ الأمور سارت من السيّء إلى الأسوأ..
ومع تصاعد المعارضة الشعبيّة لنظام “الزعيم” بورقيبة نتيجة سوء الأحوال المعاشيّة (التي تفوق سوء الأحوال اليوم!!).. لجأ بورقيبة سنة 1987 إلى تعيين رجل أمن واستخبارات هو زين العابدين بن علي وزيرا أوّلا بعد أن صار لديه يقين بأنّه لم يعد من الممكن إنقاذ حكمه من الشعب الثائر ضدّه إلاّ عبر القوّة الغاشمة بعد أن فشل هو ومن جاء بهم في الحكومة.. في إيجاد الحلول الإقتصاديّة الناجعة..
والنتيجة النهائيّة كانت كما يعرفها الجميع.. وهي أنّ الوزير الأوّل ووزير الداخليّة زين العابدين بن علي استغلّ سوء الأحوال المعاشيّة وتصاعد نقمة عموم التونسيّين على بورقيبة وسياسته الفاشلة ونظامه العاجز.. فانقلب عليه وأزاحه من الحكم واعتقله في البيت..
وحظي بن علي مع ذلك بدعم شعبيّ تلقائيّ من الناس الذين أنهكتهم سنوات بورقيبة..!!
وللتاريخ فقد خرج الناس يهتفون لبن علي بتلقائيّة يوم 7 نوفمبر 1987 وبعده.. وفي كامل أنحاء الجمهوريّة.. استبشارا بنهاية العهد التعيس ل”الزعيم” بورقيبة..!!
قبل أن يفيق الناس بعد سنوات بأنّ بن علي هو ديكتاتور وفاشل بدوره.. بل وأسوء من بورقيبة نفسه..!!!
خلاصة القول.. أنّ عهد بورقيبة انتهى بفعل تصاعد الحنق الشعبي عليه.. وقد ترك الدولة التونسية مفلسة.. وأوضاع عموم المواطنين في أسوأ حالاتها..
وعهد بن علي انتهى بدوره نتيجة تصاعد الغضب الشعبي ضدّه عن سوء الأحوال المعاشيّة وانتشار البطالة والغلاء والعجز.. وقد ترك الدولة التونسيّة بدون بنية تحتيّة إقتصاديّة حقيقيّة وصلبة..
وهكذا يبدو واضحا أنّ الأوضاع لم تكن بتاتا قبل الثورة أفضل منها اليوم..!!
المطلوب فقط اليوم أن نؤمن بأنّ الثورة في حدّ ذاتها ليست مجرّد عصا سحريّة تحقّق بمفردها التقدّم والثراء والازدهار.. بين ليلة وضحاها.. أو حتّى في بضع سنوات فقط..!!
وإنّما سقوط النظام الديكتاتوري بفعل الثورة هو بداية لطريق صعب وطويل بعد سنوات عجاف سياسيّا..
وعلى التونسيّين أن يقطعوا طريق الثورة بإيمان وعزم وعمل.. وأن يحسنوا اختيار حكّامهم مستقبلا ويعطون السلطة لمن يقدر على تحقيق الأحلام التي راودتنا جميعا ليلة رحيل بن علي في مساء يوم الجمعة 14 جانفي 2011..
أحلامنا في بلد ديمقراطيّ حرّ ومتطوّر ومتقدّم ومزدهر.. يحيا مواطنوه بحريّة وكرامة.. في ظلّ دولة عادلة.. تستجيب لتطلّعاتهم.. وتسهر على تحقيق مصالحهم.. وتحميهم.. وتقوم على رعايتهم في حاجياتهم المعاشيّة من أكل وشراب وسكن.. وتحرص على توفير مرافقهم الأساسيّة من أمن وصحّة وتعليم وشغل وإدارة ناجعة وبنية تحتيّة..
كفّوا عن البكاء على “الماضي الجميل” المزيّف.. وسراب ما قبل الثورة..
والتفتوا للمستقبل..
وساهموا جميعا في إنجاح الثورة لمصلحتكم.. ولمصلحة ومستقبل أبنائكم..
وكلّ ذكرى ثورة وأنتم بخير..