تونس في ذكرى ثورتها… والثورة في يوم ذكراها !
بشير العبيدي
/|\ #أقولها_وأمضي
ثمانية أعوامٍ مرّت تونس وثورتها أم ثماني سنوات ؟! فالعام في عربيّتنا يطلق على زمن الخصب والكسب والريّ والفيء، والسّنة تطلق على زمن الجدب والحطب والقحط والسّغب (أي الجوع).
لنتأمّل في منطق الأعوام أوّلا :
تونس الْيَوْم بلد حرّية بلا منازع، حرّية فردية وجماعية، ولا يمنع أحد من التعبير عن رأيه، رغم العنف الكلامي والفوضى التي تبدو. وباستثناء الخوض في موضوعات قليلة لها علاقة حساسة جدا بالسيادة الوطنية، فالتونسي القاعدي الْيَوْم لا يشعر بالخوف والرّعب من التعبير عن رأيه. وهذه الحرّية غالية جدا وصعبة المنال ويقبع في سجون البلاد العربية عشرات الآلاف من السجناء في سجون رهيبة قاتلة (في مصر والجزيرة العربية وسوريا خصوصا) من أجل تحقيق مقدار من الحرية التي ينعم بها أهل تونس الْيَوْم.
تونس الْيَوْم فيها بداية مقبولة للتداول على السلطة عبر إرادة انتخابية حرّة، وهذا الأمر ناضلت من أجله القوى السياسية طيلة عشرات من السنين. تمت الانتخابات البلدية وأفضت إلى مجالس محلّية يتعلم فيها التونسيون الآن إدارة اختلافهم، رغم الفساد المستحكم في ثقافة الناس والدولة العميقة. وحين نقارن تونس ببلدان كانت مشابهة لها أو أقل منها في الخمسينات من القرن الماضي، مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة ، نكتشف هول الفجوة بين النظم التي اعتمدت الحرية والتداول السلمي والنظام التونسي المُؤله للزعيم الأوحد ودولة الحزب الواحد. كما نكتشف هول الفاجعة الرهيبة حين نرى مصر وما آل إليه أمرها تحت مملوك سياسي، هو حاكم ومستبد ويتبجح بلا حياء، مصرحا بخدمته لمصالح إقليمية.
تونس بصدد استكمال مؤسساتها الدستورية، وأنجزت هيئة الحرية والكرامة عملا متميزا رغم الظروف المحيطة والضغوط، وتمت معالجة ما يقرب من سبعين ألف حالة انتهاك حقوق المواطنين وستعتذر الدولة التونسية للمواطنين على الانتهاك وهذه أول مرة في تاريخ العرب والمسلمين تقوم ثورة تجبر الدولة على الاعتراف بانتهاكها لمواطنيها وتعوّض لهم تلك الانتهاكات، ورغم التلوّث الإعلامي الذي صاحب بناء المؤسسات فإن التاريخ سيكتب أن هذه البدايات هي الخلايا الجذعية لثقافة جديدة تكون في الدولة تعبيرا عن إرادة جماعية للمواطنين، وليس المواطنون مملوكين وعبيدا للدولة كما كان الأمر زمن الاستبداد، فلله الحمد.
تونس فيها شعب حيّ، يخرج للدفاع عن ثوابته الوطنية وانتمائه الروحي في كلّ مناسبة يتعرّض فيها إلى محاولات عنيفة، وبذلك عادت إلى الشعب كلمته، وكثير من المشاريع قبرت بفضل يقظة المجتمع الأهلي والحاضنة الشعبية للدستور التونسي الجديد.
ولنتأمّل الآن تونس بمنطق السّنوات، فـ “لكل شيء إذا ما تمّ نقصان، فلا يغرّ بطيب العيش إنسان … هي الأمور كما شاهدتها دول … من سرّه زمن ساءته أزمان ! كما قال شاعر الأندلس أبو البقاء الرندي.
مرت على تونس سنوات ومفهوم الدولة في وجدان التونسيين لم يتطوّر بعد لكي يقطع مع ثقافة قديمة كانت تحت الاستبداد هي ثقافة (رزق البيليك)، أي : اعتبار الثقافة السائدة للدولة كأنّها ليست ملكا لهم، وهي غنيمة يتم التقاتل من أجل نيل أكبر حصة ممكنة منها، وهذه الثقافة مستحكمة في عقول النخب أكثر من الشعب للأسف الشديد، وإن كانت الأصوات ترتفع الآن للمراجعة والتصويب. فلا بدّ من إصلاح المنظومة الثقافية والتعليمية لإكساب معاني الدولة باعتبارعا إرادة جماعية للعيش المشترك في وجدان الجيل الجديد، مع غرس تونس في بيئتها الطبيعية الملائمة لها وهي البيئة العربية المسلمة الإفريقية.
مرت على تونس سنوات ومفهوم العمل وحبّ العمل والفناء في العمل بشقيه الفردي والجماعي شبه غائب عن النخب والشعب. الناس في تونس لم يفقهوا بعد أن كثرة الكلام والنقاش والحديث لا تجدي، وأنه إن كان حديث ينبغي أن يتناولوه فهو في الحلول والبدائل لإيجاد مخارج من الصعوبات التي يعيشها الناس وعلى رأسها الصعوبات الاقتصادية، فلا يمكن مقايضة حرية التونسيين بلقمة عيشهم، كما تفعل بعض قوى الجذب الى الوراء، كما على التونسيين أن يقتنعوا أنه لن يحل مشكلاتهم أحد غيرهم ولن يجعلهم مجتمعا حديثا إلا بقرارهم، ولن تتغير الأمور إلا بتغيير أنفسهم.
مرّت على تونس سنوات والمؤامرات تلو المؤامرات لا تتوقف، وهي مؤمرات يشرف عليها صهاينة الخليج الأمريكي بدعم مباشر من القوى المعادية للعرب، لأنها ببساطة تخاف كثيرا من استنساخ التجربة التونسية في البلاد العربية رغم هشاشة الوضع التونسي. هذه القوى هي التي ركّزت بشار الأسد في سوريا وهي ذاتها التي زعمت ذات يوم أنها تريد إسقاطه وهي ذاتها التي تحاول الْيَوْم إرجاعه للجامعة العربية لكي تذلّ به العرب الذين يفكرون مستقبلا في التمرّد وهذا هو منطق الإذلال الذي يحاول إفساد التجربة التونسية وجعل التونسيين يكرهون ثورتهم ويحنون إلى عودة الاستبداد.
مرّت على تونس سنوات وهي تحت قصف إعلام وظيفي مركز من طرف قسم مهيمن من الإعلام اللاوطني المأجور، إعلام مموّل من جهات مشبوهة، ويشتغل ليلا نهارا بالتعاون مع قوى تستخدم الإرهاب الوظيفي وتحركه في كل مناسبة في سعي إلى إحداث انتكاسات كلما همّت البلاد باجتياز مرحلة أو استحقاق … وقد كانت مهم الإعلام الوظيفي والإرهاب الوظيفي هو تكريه التونسيين في ثورتهم وتبغيضهم في منجزاتهم لجعلهم يحتقرون أنفسهم وينظرون إلى ما حققوه بدونية مقيتة.
مرّت على تونس سنوات والفساد يواصل نخر المجتمع والدولة، فلا المجتمع قادر أن ينهي الفساد، ولا الدولة استطاعت أن تقضي عليه بسبب امتداداته الاخطبوطية، وعلاقاته الوثيقة بقوى دولية لا تريد الخير لتونس.
مرّت سنوات على تونس الشباب يعاني البطالة، والتهميش، وجهات بكاملها لاتزال تعاني الفقر والاحتقار الذي كرسه النظام السابق.
نعم، تونس تعيش مشكلات كبيرة، لكن لا خيار أمامها إلا أن ينظر أبناؤها إلى المستقبل بعين واعية بصيرة، وأن يقتنعوا أنه بالعمل والتشارك وجمع الجهود، ونبذ الصراعات العدمية العبثية وإدارة الاختلاف يمكن أن نتقدم. على الشعب أن يرتفع صوته ضد التفرقة والاحتقار، ومع الوحدة والحوار سنتمكن من بناء حصن الحرية.
يحتاج التونسيون إلى منارات شعبية تعينها على إحداث ثورة ثقافية فكرية وأخلاقية تقوم على أسس قيمية واضحة وصارمة أساسها توفير بيئة تونسية وعربية نظيفة من كل أنواع الفساد المالي والأخلاقي والفكري، وموالية لقيم المجتمع التونسي، ومنفتحة على العالم.
الاقتصاد يشكو من الصعوبات الجمة، ولكن القدرات الكامنة عظيمة. تونس في حاجة إلى محيطها المباشر، وأرجو من الله أن ييسر تطبيق منوال اقتصادي متعدد الآفاق، بدءا بمشروع سوق مغاربية مندمجة، وإن لم يكن، فسوق تونسية جزائرية ليبية مفتوحة مشتركة على الأقل، وعملة تونسية جزائرية ليبية واحدة … نحتاج إلى منوال اقتصادي ينوّع مصادر الدخول ليشمل افريقيا وأمريكا وآسيا وروسيا وتركيا وغيرها، ويقلل من الارتباط بمنطقة أوروبية صارت تصدّ كل داخل عليها بجميع الوسائل.
شيء وحيد لا ينبغي أن نخطئ فيه، هو أن نكرر خطأ الجيل السابق عندما حان الاستقلال فتحول إلى استبداد متغول أخّرنا سبعين سنة إلى الخلف.
الحرّية التي تحقّقت لا ينبغي التفريط فيها مهما كان الثمن. لا يمكن أبدا أن ينهض شعب وهو تحت استعباد الاستبداد.
✍🏽 #بشير_العبيدي |جمادى الأولى 1440 | كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تَصْنَعُ أمَلًا |