حشود بلا خطيب.. وبلا خطبة
زهير إسماعيل
في التجمّع العمالي الحاشد للاتحاد العام التونسي للشغل خطاب للأمين العام نور الدين الطبوبي. والتجمع العام أسلوب في التواصل عرفته الحركة الوطنية، ومارسه بورقيبة في سنوات الاستقلال الأولى، ثم استعاض عنه باجتماعات داخل قاعات لجنة التنسيق وما كان يسمّى بـ”دور الشعب”. وعرفته الحركة الطلابيّة في تجمعات ضخمة بكلية العلوم وكلية الحقوق، في الثمانينيات خاصة.
وهو أسلوب عرفته روسيا مع الثورة البلشيفية وأوروبا مع صعود النازية والفاشية، وفرنسا مع حركة ماي 68. وارتبط في البلاد العربية وجوارها بالزعامات الكاريزمية مثل عبد الناصر (رضي الله عنه) والإمام الخميني (قُدّس سرَّه). واستمرت آثاره مع تيار المقاومة في لبنان وغزّة.
في مثل هذه التجمعات الجماهيرية الضخمة تكون هناك رسائل واضحة، ومثلت بعض التجمعات منها منعرجا في تاريخ حركات تحرر ودول وإمبراطوريات. ولعبت الخطابة دورا مهما. فإلى جانب الحشود المؤلفة هناك أفكار وإستراتيجيات تعرض وجمل سياسية تاريخية ترسخ. وكان الخطباء زعماء إيديولوجيون وفلاسفة ومفكرون عرفوا النضال والمطارحات النظرية الكبرى حول الصراع والمجتمعات وموازين القوى ومناهج التحرر. وكان الإمام الخميني نموذجا أوفى، بشهادة Paul Balta الكاتب الصحفي بجريدة لوموند والذي رافق الإمام الخميني في الطائرة يوم عودته إلى طهران، من منفاه بـ Neauphle-le-Château، وحضر التجمع التاريخي الذي ضم أكثر من ثلاثة ملايين إيراني.
هذا الخطيب اليوم شبه غائب ويمثل حسن نصر الله تقريبا الاستثناء (مازلت نمّن بالثورة السورية راني هه). ففي خطاباته (في الـ2000، والـ2006) رسائل واضحة وقراءة منهجية وعميقة للمشهد المحلي والإقليمي والدولي، وجمل سياسية نافذة، ومتعة حقيقية، تضاهي متعة التلقي لنص بديع أو لمحاضرة متميزة في مدرجات الأدب والعلم.
وحتى بعد أن صار خطابه من وراء شاشة، وبعد المطب السوري، حافظ على حضوره رغم تزعزع مصداقية ما يقول عند من خالفوه موقفه من الثورة وانحيازه إلى أسوأ أنظمة الاستبداد العربي.
الثورة في تونس ليس لها خطباء، بل ليس لها خطيب واحد، رغم أنّٰه كان للحركة الطلابيّة خطباؤها في الثمانينيات، فقد استهلكهم الزعيق الإيديولوجي، وملابسات معلومة عرفتها الثورة، فضلا عن تغيرات مهمة في منهجيات التواصل ووسائله، وتراجع فكرة الزعيم الملهم، إلى جانب تفاهة التكنوقراط البارد والوافد والذي حاول ركوب المنابر (المهدي جمعة، ياسن إبراهيم).
رغم التحولات المشار إليها، بقي هناك حضور للتجمعات العامة الحاشدة وللخطابة. واستأثر الاتحاد بهذا الحضور الجماهيري المعتبر والمتواصل .
استمعت إلى خطاب الطبوبي بباجة، وقبله خطاباته بساحة محمد علي وببعض المدن الداخلية، والنتيجة هي نفسها: تداعيات للكلام بدون رابط، وصياح بلا منهج تتخلله بعض التظلم والشعارات الخشبية المبهمة (نحن منحاوزن لشعبنا وقضايا شعبنا: عبارة نافح بيها سمير الشفي)، وكثير من التناقضات وعدم السيطرة على العبارة السياسية وقدرة الموازنة في صياغتها، إذ يعسر الجمع بين قوله “حكومة باعت البلاد”، وتأكيده على التمسك بـ” المفاوضات الاجتماعية” والإلحاح عليها، ومثل هذا كثير. فلا تظفر بجملة سياسية واحدة ترسم سياسة أو تكثف تقديرا أو توضّح هدفا أو تحقّب مسارا.
لست في وارد مقارنة الطبوبي بمن ذكرت من الخطباء، ولكن للخطبة شروطها الدنيا من المنهج والعناصر المرتبة والرسائل الواضحة، وهذا هو الغائب الأبرز.
وبقدر ما يشير هذا إلى شخصية الأمين العام وتكوينه وتحصيله وعلاقته بالفكر والإيديولوحيا والنضال ضد الاستبداد، فإنّه يحيل على وضع الاتحاد بعد الثورة.
فالاتحاد نشأ في سياق الحركة الوطنية ليكون جزءا من النظام السياسي على مدى ستين عاما، وطبعت عشريتا بن علي البائستان الداميتان قيادته بطابع ماتزال آثاره بادية، قد تفسر عجزه عن صياغة معادلة توازن بين المطلب الاجتماعي والدور السياسي (إختلاف المنتسبين إليه إيديولوجيا وحزبيا). فالاتحاد متوتر بين مركزيّة لم تفك ارتباطها بالسيستام، وقيادات في الصف الأول مؤدلجة تُلِّح على الدور السياسي المتحزّب في التحرك الاجتماعي وترى فيه توازنا ضروريا في ميزان قوى حزبي مختل لصالح خصم إيديولوجي، وقطاعات قوية مناضلة متمفصلة مع الحراك الاجتماعي العميق، ولها درجة من استقلالية القرار والحركة غير هينة، وفي مقدمتها قطاع التعليم الثانوي، إن لم يكن القوة الوحيدة تقريبا.
يعيش الاتحاد أزمة قيادة، ومن ثم أزمة دور، وهذه الازمة الداخلية لن تجعل منه أحد شروط الخروج من الأزمة العامة، وتبدو الأزمة في المشهد السياسي لا تقل عن الأزمة التي يعرفها الاتحاد، وهو ما يجعل التجربة متوتّرة بين مآلين: “الفوضى المنظمة” وتواصل “الانتقال الديمقراطي”، والفرق بين المآلين في الدرجة وليس في الاتجاه.
فالحشود حينما يغيب الخطيب حاملُ الفكر والتجربة النضالية والبرنامج تصبح كما مهملا…
مازال للإيديولوجيا دور في صناعة الحلم ورسم الإسترتيجيات وشحذ الفكر ومحاربة الضحالة.