قرابين رأس السنة على معبد التوحش
فتحي الشوك
أطلق بابا الفاتيكان فرنسيس منذ أيّام صيحة فزع مستهجنا الطّرق الاحتفالية برأس السّنة الميلادية معتبرا أنّها أفرغت من روحانيّتها وتحوّلت إلى شكل من أشكال الجاهليّة، وبالمقابل يروّج بعض المحتفلين بها أو المتحمّسين لها بأنّها مجرّد مناسبة للاحتفاء برأس سنة إدارية خالية من أيّ مدلول ديني. وبين هذا الرّأي وذاك ينخرط الأفراد لا إراديا في نمط سلوكي قد تكون جذوره دينيّة بيد أنّ مغزاه استهلاكيّ بحث. فما علاقة رأس السّنة الميلادية الّتي يحتفل بها الملايين بميلاد السّيد المسيح عليه السّلام وما علاقة انتشار ظاهرة الاحتفال به بالعولمة؟
التّقويم الميلادي لا علاقة له بميلاد المسيح:
يقرن البعض رأس السّنة الميلادية بميلاد السّيد المسيح مع أنّ ذلك ليس صحيحا فأغلب المؤرّخين المعاصرين والقدامى ينفون ذلك، وقد بيّن الدكتور حنّا جرس الحضري في كتابه “تاريخ الفكر المسيحي” أنّ أغلب الدّراسات تذهب إلى أنّ ميلاد المسيح كان بين أعوام خمسة قبل الميلاد أو اُثنين بعده وهو نفس استنتاج المؤرّخين القدامى مثل سافيروس سالينسوس ونيكونورس كاليسنوس الّلذان يريان أنّ تاريخ ميلاد المسيح كان قبل مقتل الإمبراطور الرّوماني يوليوس قيصر بنحو اثنين وأربعين عاما أي أربع سنوات قبل الميلاد وفقا للتقويم المعمول به. وكان يوليوس قيصر أوّل من اتّخذ الفاتح من شهر جانفي (يناير) كٍرأس لسنة وذلك سنة 46 ق.م ولإضفاء القداسة على المناسبة كان لا بدّ من استحضار إله وهو جانيوس: الإله ذو الوجهين والمحدّد للبدايات والنّهايات.
والملاحظ أنّ الرّاهب الأرمني دوينسيوس اكسيجونس هو من أدخل هذا التقويم الروّماني الأصل إلى المسيحية وذلك سنة 532م ولم يقع تبنّيه واعتماده من طرف الكنيسة الرسمية إلا مع البابا جريجوريس الثالث عشر بابا روما سنة 1581م. هو إذا تقويم روماني ذو جذور وثنية وكلّ المظاهر الاحتفالية الّتي طالما اعترضت عليها الكنيسة الرسمية لا تخلو من تلك الرّموز والدّلالات، فشجرة الميلاد مثلا هي في الأصل رمز لإله الشّتاء وبابا نوال أو سانتا كروز فهو مزيج من الشخصيات الأسطورية وإله الشّمال “أوذن”، وقد استمرّت ممانعة الكنيسة الرسمية لقرون قبل أن تخضع في النّهاية منذ سنة 1863 م أي بعد الصّدمة الثّقافية والتحوّلات الكبرى الّتي عاشتها المجتمعات الغربية في إطار تمسّكها ببعض سلطتها الّتي بدأت تفتقدها.
الاحتفال برأس السّنة الإدارية:
إذا ما نزعنا كلّ طابع ديني على الاحتفال بالمناسبة وهو ما لا يمكن لتجذّر الرّموز الّتي حوّلتها إلى طقوس دينية بحثة: فما رجاحة قول من يدّعي بأنّها مجرّد وقفة لتوديع سنة واستقبال أخرى ومناسبة لتبادل التمنّيات والتّهاني؟ هي سنة إدارية لتنظيم شؤوننا، فما الّذي يجعل إدارتنا لتلك الشّؤون تستدعي تقويما غريبا هجينا مفروضا لتستبدلآ أخر أصيلا متـأصّلا هو أدقّ وأقرب للفطرة وللأرض والتّاريخ؟
ذاك ما وقع في عديد البلدان العربية والمسلمة حيث صار التقويم الميلادي معتمدا وصارت مواضيع يوم العطلة الأسبوعية ومواقيت العمل اليومي محرّمة وخارج مجال النّقاش يتّخذها البعض عناوين للحداثة والتحضّر في عمليّة قطيعة وصدام مع السّيرورة الطّبيعية للمجتمعات وفي تكريس لعلاقة تبعيّة مذلّة لمستعمر أجنبي خرج شكلا واستوطن مضمونا.
فالزّمان ليس زماننا والأيّام ليست أيّامنا ويكفينا التّواجد كطفيليّات عالقة على هامش التّاريخ، وإذا كان المستعمر لم يقدر أن يغيّر جذريّا مجتمعاتنا فقد نجح في زرع وكلاء له تكفّلوا بالمهمّة وقاموا بها على أحسن وجه لتتحوّل السّيطرة المباشرة المكلّفة إلى هيمنة كلّية عن بعد وننتقل من الاستعمار إلى الاستحمار. لا أدري كيف نحتفل برأس سنة إدارية وكيف نحتفي بإدارة فشل لم تنتج سوى الفشل؟ إنّ الاحتفال برأس السّنة الإدارية رسميا وشعبيا ليس سوى تجديد بيعة للمنظومة العالمية المهيمنة وتشويش لبوصلتنا بما يعقّد تعاطينا مع مستحقّات اللّحظة ليسلبنا قدرتنا على الفعل والإضافة.
منظومة الاستهلاك المتوحّش:
لا يمكن فهم انتشار ظاهرة الاحتفال برأس السّنة الميلادية في المجتمعات خلال العشرينيتين الأخيرتين بمعزل عن فكّ بعض رموز العولمة المتوحّشة الّتي اخترقت المسافات وانتهكت الخصوصيّات وجعلت الجميع يصطفّون في قطيع مستهلك لما تنتجه أقلّية وطغمة مهيمنة على العالم حصرت الإنسان في قمقم احتياجاته البيولوجية وجرّدته من الإنسانية متلاعبة به وفق ردّ الفعل البافلوفي الغريزي محوّلة إيّاه إلى عبد للحاجة، تلك الحاجة الّتي تستثير الدّافع ممّا يجعل الكائن الحيّ يبحث عن مشبع (الحافز)و هي عمليّة نفس جسدية طابعها التوتّر وعدم الاستقرار وكأنّها حالة طوارئ تدفع بالفرد نحو نشاط استهلاكي محموم خارج عن سيطرته ممّا يصعّد في حالة توتّره وبالتالي يذكي مستوى استهلاكه لتستنفذ طاقته المادّية والمعنويّة وتعتصره ماكينة الرّأسمالية المتوحّشة حتّى لا تبقي فيه شيئا.
تلك هي الحياة المادّية المعاصرة المعولمة والمعولبة، ماكينة متحجّرة نهمة لا تكتفي بدراسة السّوق وتحديد الاتّجاه العام وسبر الآراء بل صارت تصنع كلّ ذلك وتتحكّم في الدّورة الاستهلاكية كما تشاء، تفعيلا للحوافز وتوليدا لحاجات جديدة إلى جانب اللّعب على أوتار مولّدات القلق والتوتّر والخوف، فمناخ الإرهاب المصطنع قد يعيق في الظّاهر بعض الاستثمارات الجديدة في حين تتغوّل تلك المتمكّنة والقديمة عبر صناعة السّلاح وعبر سلوكيّات هروب للأفراد في شكل استهلاك غير مبرّر إلى جانب دفعه عبر استثارة غريزة بقائه إلى البحث عمّن يمنحه الأمن والأمان والتشبّث بمن هم مسؤولون عن شقائه.
في مناسبات أعياد الميلاد ينتعش التسوّق بشكل جنوني، تزدحم النّاس في طوابير مكدّسة لاقتناء دجاجة مجمّدة بضعف سعرها وقد أراح بال بعضهم ملاحظتهم لعبارة حلال، في حين يتجمهر آخرون أمام محلّ لبيع المرطّبات لأجل كعكة معدّة سلفا منذ أسبوع أو يزيد وتحتوي الجلاتين المسرطن، إلى جانب الشكولاتة الرّخيصة غير معلومة المصدر وشجر أعياد الميلاد وزينتها وللمفارقة أنّ بعضهم لم يهتمّ بشجرة إلّا حينها فقط لأجل صورة يلتقطها وينشرها على صفحات التّواصل الاجتماعي تأكيدا لانتمائه للقطيع.
أمّا عن الملاهي والحفلات فحدث ولا حرج فعملة صعبة تهدر لأجل استقدام تفاهات تنعق وتهيّج الحضور الّذي ينتهي في النّهاية إلى الخلط بين الحمار والدّيك ليستفيق إن لم يرتكب حادث طريق وهي حوادث قياسية تقع تلك اللّيلة ليكتشف صباحا أنّ يومه أتعس من أمسه. والغريب أنّه في بعض الدّول الّتي تدّعي أنّها عربيّة ومسلمة تحتفل بعض المدن برأس السّنة الميلادية. بطريقة خرافية، فدبي مثلا تنفق ما قيمته نصف مليار دولار وهو ما يعادل ثلاثة أضعاف ما تنفقه كلّ المدن الألمانية وهو ما يكفي لإنقاذ ملايين الأطفال الّذين يعانون من المجاعة وسوء التغذية الحادّ والكوليرا في اليمن الّذي تحوّل بفضل ألعابهم النّارية الحقيقية إلى موطن لأسوا كارثة إنسانية في التّاريخ الحديث.
ولعلّنا وسط التّحوّلات المجنونة، المملاة والغير مدروسة الّتي تشهدها السّعودية قد نشهد قريبا إمكانية أداء الحجّ والعمرة والكريسماس في نفس الوقت بعد أن حوّلوا المشاعر المقدّسة إلى معالم سياحية تجتذب الزوّار لحلبهم لفائدة راعي البقر الأمريكي. ويبدو أنّ الاحتفالات برأس السّنة الميلادية الّتي أفرغت من روحانيّتها كما قال بابا الفاتيكان يترافق أيضا مع إفراغ ممنهج للشّعائر الإسلامية الّتي هي في طور تحوّلها إلى طقوس شكلية بلا روح في عملية ترذيل لكلّ ما هو قيّميّ وسط الأزمة القيّميّة العميقة الّتي تعيشها الإنسانية في زمن التوحّش.