تدوينات تونسية

لا مناضل ولا عاقل ولا هم يحزنون

محمد كشكار

شاركتُ اليومَ في يومِ الغضبْ، والغاضبُ غيرُ عاقلٍ ساعةَ الغضبْ، ولا عقلَ نَفَعَنَا، نحنُ العربْ، ولا غضبْ، ولا تسألوني عن السببْ، لأنني ببساطةٍ لا أعرف السببْ! مواطن العالَم

نزلتُ، وإلى القصبة الساعة 10:15 وصلتُ، سلكتُ شارعَ بابْ بناتْ حتى وزارتِنا، أمشي وبعينَيْ صحفي أراقبُ زملائي الأساتذة “الغاضبين”. كان التجمعُ كثيفًا مرصوصًا، يَعسُرُ على مثلي شقّه أو حتى التوغلَ داخله. تذكرتُ ما حدث لي منذ سنتين في نفس المكان في يوم الغضب ضد جلول الوزير السابق (ضد اليساري الانتهازي كانوا أكثر من ضد التجمعي الفاسد؟ ربما يفسره عدم مشاركة النهضوايين بكثافة اليوم)، حينها أحسستُ جسمي يسيرُ دون أن تلامسَ قدمايَ الأرضَ، كِدتُ آنذاك أختنقُ. احترمتُ سني وقفلتُ راجعًا. وأنا راجعٌ، لمحتُ زميلةً “غاضبةً” تسيرُ في الاتجاه المعاكس وتحمل في حضنِها ابنتَها، على غيرِ عادتي لم أمسكْ نفسي، خاطبتُها أبًا ناصحًا: “احذري يا مدامْ على الملاك من سطوة الزحامْ، لم تبلغ الصغيرةُ بعدُ عمر الغضبْ”. شكرتني مبتسمةً وعيونُها تكادُ تنطقُ لا مبالاة.
كان المكانُ مغروسًا بوليس وبين البوليس والبوليس بوليس. قصدتُ المقهى العاليةَ المجاورةَ لقصرِ الحكومةِ، طلبت “اكسبراس وكِيكْ” وعلى الربوةِ، فعلاً وليس مجازًا، جلستُ، أخرجتُ ورقةً وقلمًا، وبدأت ألحّنُ، أقلقني نشازُ الفرقةِ النحاسيةِ العسكريةِ، فخَطَرَ ببالي ما قاله “انشتاين” في أمثالِهم: “نخاعٌ شوكيٌّ يكفيه لقضاء حاجتِه البشرية، لا يحتاجُ مخًّا”.

انتزعنِي من نصِّي حوارٌ داخليٌّ، هذا نصُّه:
– اعتزلتَ فلماذا نزلتَ؟
– لأناضلَ.
– أوَ تسمّي هذا نضالاً؟ وإذا كان هذا نضالٌ فقد سبق لي أن مارستُه طيلةَ ثلاثينَ عامًا، دونَ جدوَى.
– إذن أنتَ مناضلٌ!
– لا مناضلَ ولا عاقلَ ولا هم يحزنونْ.
– فلماذا نزلتَ إذن؟
– أنا عاطفيٌّ روحانيٌّ حتى النخاع، دفعني اللاشيءُ لأرصدَ اللاشيءَ وأكتبُ عنه اللاشيءَ من أجل اللاشيءِ.
– كفاك عبثًا أيها المجنون.
– ومَن تراهُ يحكمُ الدنيا بعبثٍ غير العبثِ؟

رجعتُ إلى نفسي وهممتُ بصَلبِ قلمي، وفجأة أمرتُ نصِّي: “قِف يا نَصُّ قِفْ، وجِفْ يا قلمُ جِفْ”، مشهدٌ تجسّدَ أمامي، مشهدٌ لم أرَ مثلَه من قبلٍ، مشهدٌ أوريجينالْ: امرأةٌ فرشيشيةٌ، عرفتُها من أنتروبولوجيتِها الناطقةِ. توجهتْ إلى “الشاهد” وهزُّتْ “صالحي” حزينًا بصوتٍ متهدِّجٍ، رافعةً يديها نحو السماء، لسانُها نَطَقَ دعاءْ باسم المصطفى، وعيونُها انهمرت بكاءْ، من فرطِ ظلمِ أولِي الأمرِ الطرشانِ الخرسانِ البُلَهاءْ. رمقَها شرطيٌّ بلباسٍ مدنيٍّ، أرادَ إخمادَ صرختِها، عَرَضَ عليها كأسَ ماءْ، أجلسَها على كرسِيٍّ وقالَ لها: ما شكواكِ يا أمي؟ قالت: عندي بنيّة بطّالة، ونا طرّدوني مِالخدمة… مشيتْ نشكِي… ناسْ تُمرُڤْ اتخُشْ… تُمرُڤْ اتخُشْ… ونا خرّجوني وليدي… ملڤيتش لْمِّنْ نشكِي… هاني جيتْ في الكارْ مِالڤصرين نشكِي للشاهد… هِزني ليه وليدي يرحم امّيمتِك. “بَرْوَلَها” البوليس: أخذ اسمَها ولقبَها، ثم وعدَها بإبلاغِ شكواها مباشرةً للشاهد. صدّقته، دعتْ له بالخيرِ ورضاءِ الوالدَينِ، ثم نهضتْ مفزوعةً قائلةً: “تَوْ تفوتْني كارْ الڤصرين”.
رجعتُ إلى قلمِي، لم أجدْهُ، ذابَ، ورقتِي هزَّتْها الريحُ مع “الصالحي” الحزينِ، نهضتُ كَيْ لَا يَفُوتَني قطارُ الأحوازِ الجنوبيةِ.

إمضاء مواطن العالَم
“المثقّفُ هو هدّامُ القناعاتِ والبداهاتِ العمومية” فوكو
و”إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ” جبران

تاريخ أول نشر على حسابي ف.ب: حمام الشط، الأربعاء 19 ديسمبر 2018.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock