هذا يوم هزّ العالم، وقليلة هي الأيّام الكبرى في التّاريخ
لكنّك ستظلّ تسمع دائما من يقول: “ماذا ربحنا من هذه الثّورة ؟؟.. لا شيء سوى الحرّيّة !!!”
هذا التّهوين والتّبخيس لقيمة الحرّيّة، لا يصدمني عندما يأتي من البسطاء الكادحين، لأنّه من الطّبيعيّ بحكم ظروف عيشهم أن يكونوا أكثر التصاقا بهمومهم اليوميّة، كما أنّ مستوى تفكيرهم لا يرقى في الغالب إلى إدراك العلاقة الشَّرطيّة بين القيم الكبرى (كالحرّيّة) وبين الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة الّتي تعيشها الشّعوب، ولا يستطيعون أن يفهموا كيف تتطوّر الأمور وتتفاعل تاريخيّا ليصبح لحرّيّة الرّأي والتّعبير والتّنظُّم تأثير مباشر على معاشهم اليوميّ وقوت صغارهم…
الصّادم في هذا القول أنّه يأتي على ألسنة الكثير ممّن نسمّيهم “عرَضًا أو تجاوزًا أو زورا وبهتانا” بالمثقّفين أو النّخبة، من رجال الفكر والفن والسّياسة وحتّى من الكتاب والمتحذلقين..
في سبيل الحرّيّة دفعت الجزائر مليون ونصف شهيد (ولم تتحرّر بعد) ودفعت ليبيا في ثورتها عشرات الآلاف ودفعت سوريا الملايين بين شهداء وجرحى ومعتقلين ومهجّرين ومغتصبات ومغتصبين، ودفعت الفياتنام مليون ومائة ألف قتيل و3 ملايين جريح و13 مليون لاجئ ومشرّد ودفعت شعوب أمريكا الجنوبيّة مئات آلاف الضّحايا في مقاومة الاستبداد وكلّ شعوب الأرض على مدار التّاريخ دفعت الملايين والملايين من أجل التّحرّر من قيود الاستعمار والعبوديّة والميز العنصريّ والتّبعيّة وأنظمة الحكم الشّموليّة…
ثمّ يأتي “المثقّف التّونسيّ”، بعد أنّ منّ الله علينا بأعظم نعمة يقدّرها الإنسان الحقيقيّ وبأبخس الأثمان، يأتي مثقّفو ما بعد الثّورة الّذين كانوا طيلة العقود الماضية في حالة موت سريريّ، لينشروا ثقافة العجز واليأس والسّواد والحداد، لأنّنا لم نحقّق في نظرهم بعد هذه السنوات من الثّورة شيئا يذكر سوى الحرّيّة (هكذا بمنتهى الاستخفاف..)
ألم يحدّثهم أحد يوما، عن ملاحم الأبطال وأنهار الدّماء الّتي روت كلّ أرجاء الأرض شرقا وغربا وطولا وعرضا، وعن قصائد الشّعراء وأغاني الثّوّار وحنين العاشقين ودعاء العجائز و دموع الثّكالى والأرامل وزغاريدهنّ في سبيل تلك ” الحرّيّة”…
ثمّ ألم يفهموا أنّه حتّى بالمعنى البراغماتي النّفعيّ، بمعنى الحاجيات اليوميّة كالتّشغيل والصّحّة والسّكن والأمن وغيره… فإنّ الحرّية هي الشّرط الأكبر والضّامن الأوّل لتحقيق كلّ ذلك، لأنّه في مناخات الحرّيّة وحدها تبنى المؤسّسات الضّامنة لخدمة الإنسان وتُسَنّ القوانين الكافلة لحقوقه وواجباته، وتدور كلّ دواليب الإنتاج والفكر في المجتمع وفق قواعد المصالح المشتركة للجميع دون ظلم أو اضطهاد…
يصيبني الذّهول أحيانا وأنا أسمع مثل هذا الاستخفاف بقيمة الحرّيّة، لكنّني سرعان ما أتدارك وألوم نفسي على سذاجتها في طرح الأمور: كيف تريد لهؤلاء أن يعرفوا قيمة ما تتحدّث عنه ؟ ماذا دفعوا في سبيلها ؟ هل آمنوا بها يوما ؟ هل كتبوا ؟ هل حلموا ؟ هل سجنوا ؟ هل عذّبوا ؟ هل هجّروا ؟ هل حُرم أبناؤهم ؟ هل بكت أمّهاتهم ؟ هل نُبِذوا في وطنهم ؟ هل هُتِكت أعراضهم ؟ هل دفنوا أحبّتهم ؟…
لا شيء من كلّ ذلك.. لم يدفعوا شيئا في سبيلها،
إنهم أحرار بالصّدفة !
ولذلك فإنّهم لن يروا أبدا ممّا تحقّق شيئا سوى ما يُسمّى: “الحرّيّة”…