تدوينات تونسية

الدولة والثورة ..

علي المسعودي

بودّي أن أتناول هذه المسألة في سياقها المبسّط، وبعيدا عن كل تنظير عقيم..
البعض يعتقد أن الثورة التونسية حمْل أُجهِض في مهده بواسطة ما يسمى مسار الانتقال وخارطة الطريق، وهم مازالوا في انتظار يوم الخامس عشر من جانفي الذي لم تشرق شمسه بعد..
لست هنا بصدد فتح أبواب السجال. ولكني أعترف بأن هذا الموقف لطالما كان متّسقا مع نفسه. فأصحابه قد تجدهم في كل تظاهرة، أو حتى في قطع طريق.. ولكنهم لم يصطفّوا أبدا وراء طابور انتخابي، ولم يؤمنوا يوما بالصناديق إلا كفعل انقلابي..
البعض الآخر لا يرى من الكوب إلا الامتلاء، ويعتقد بأن الدولة، مؤسسة الضرورة والتوافق، قد عادت إلى الشعب، عبر صندوق الانتخاب. وأن الشرعية الكبرى هي ما يقرّره دستور البلاد.
بعض من النخب، سامحهم الله، يضعون ساقا في الثورة وساقا في الدولة، هم منخرطون في الاحزاب، وصراخهم يصمّ الآذان في مجلس النواب، هم الذين كتبوا ديباجة الدستور، ونافحوا عن حرمة وعدالة القانون… ولكنهم سرعان ما ينقلبون إلى ثوريين أزليين، وتنقلب الدولة في نظرهم إلى مظهر للتسلط البورجوازي البغيض، وفجأة يصبح التمثيل النيابي خديعة للشعب وحكما بالغياب.
عندما نجمع بين منطق الدولة ومنطق الثورة يظهر منطق ثالث هو منطق الفوضى.. !

•••

يبلغ متوسّط الدخل الفردي في فرنسا 42000 دولارا أمريكيا، والبعض يريد تصويرها كدولة من العالم الثالث !.
الفرنسيون الذين يخرجون في نهاية كلّ أسبوع إلى جادة الشان إليزي إنما يعبُرون فقط عن ضجرهم من الوجهات السياحية الرخيصة في شمال إفريقيا، يريدون دخلا يؤمن لهم رفاها أكثر.. لم يطالبوا يوما بإسقاط النظام، وبالتالي الحديث عن ثورة هو نسيج من نسج الخيال !.

أما الذين يقودون حراكا اجتماعيا في بلادنا ويريدون إلباسه لباس الثورة المظفرة والسترة الحمراء، أولى بهم أن يكفروا قبل ذلك علنا بمنطق الدولة.. وأن يعلنوا صراحة أنه لم تقم ثورة، لا يمكنك أن تكون لاعبا وفق القواعد والأصول، وفجأة تعلن الحرب على الكل عند ما لا يمكنك الفوز.

قد أفهم أن تلبس سترة بحسب إيقاع موضة الشتاء في باريس، ولكني لا أفهم كيف تصبح الثورات ثيابا على المقاس من صنع آف سان لوران أو دار شانيل..!

أنا أدعو الثوريين الجدد أن يغسلوا سبّاباتهم جيدا من الحبر الانتخابي قبل أن يرفعوها مرة أخرى لغاية إسقاط النظام، هذا النظام الذي صوّتوا له بطريقة السلب أو الإيجاب.

•••

الطبقات السياسية في الغرب ليست في الواقع سوى عوائل ملكية، تجدد البيعة لنفسها، عبر صندوق انتخاب…
أما الطبقة السياسية في بلادنا فقد أصبحت عوائل ايديولوجية شديدة الانغلاق والنقاء، مثل آل بونابارت أو آل بوربون.
وفي كلتا الحالتين، أصبحت السلطة شأنا خاصا، لا يثير حماس العامة ولا شغفهم… فإذا ما احتاجوا إلى الاختيار والتعبير، يكون قطار الاقتراع قد فات، فيلجؤون إلى الضرب بالأحذية على اسفلت الشوارع، وهو مسعى عادة ما يخيب، كما يخيب مسعى رضيع جائع، ارتمت أمه في حضن حبيب !..

إنه بؤس الأنظمة الديموقراطية الحديثة..

إذا رأيت عزوفا عن صناديق الاقتراع، فاعلم أن هذه الصناديق ستنقلب قريبا إلى متاريس أو حواجز في الطريق.. والعزوف الانتخابي هو دائما قرينة تزوير، هو دائما دليل اتهام للسياسي.. والسياسي بالضرورة محترف تزييف وتدليس.. غايته تحريف الديموقراطية حتى تصبح حكما للشعب، بدل حكم الشعب.

ومع ذلك أعتقد جازما أن رعي الأغنام عند آل النداء والسبسي، أحب إلي من رعي الجمال عند آل ليلى وبلحسن الطرابلسي.. !

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock