مقالات

باجي السعودية وشعب مُسلم في دولة لائكية !!!

سليم حكيمي

يوم 19 مارس 1974 بتونس، خطب بورقيبة في ندوة بعنوان “ثقافة الهوية والوعي الوطني” عن تناقض القرآن وسمْته الأسطوري وجمع النبي “أسطورة عصا موسى وأهل الكهف”. واصفا إياها بنصوص جُمعت بفضل تنقّله الدّائم في الصحراء. نشرت صحيفة “الصّّباح” يوم 20-21 مضمون المحاضرة، ونقلَت محتواه “الشهاب” اللبنانية. بلغت القصّة مسامع عبد العزيز بن باز عميد جامعة المدينة بالسعودية، فأبرق إليه طالبا إمّا التكذيب أو اعتباره مرتدا وجبت عليه التوبة. فكلّف الشاذلي القليبي رئيس ديوانه الذي رد متودّدا: إن “بورقيبة خاض جهادا ضد الإستعمار لتكون كلمة الله هي العليا…!!” مُشفعا رسالته بخطبه في مناسبات المولد النبوي في القيروان. وكانت الأزمة سببا في تراجعه عن المساواة في الميراث الذي كان قد هيأ له بمنع تعدد الزوجات.

لمن أراد فهم إسلام “إسلام صلاة القِياد الجمِعة والاعياد” لجيل الباجي، عليه الأوبة إلى المرجع غير المُعلن، الفرنسي “أُغست كونت” (1798-1857) الفيلسوف الذي قسّم تاريخ البشرية إلى مراحل ثلاث: اللاهوتية والميتافيزيقية والوضعية، آخر مراحل البشرية. هذا هو الإكتشاف المعرفي “الكبير” الذي تأثّر به بورقيبة الّأرنُسطي، المتسائل عن الدّين في أحسن الأحوال. شهد عليه الحبيب الشطي وزير خارجيته أنه كان يقول: إن كان الله موجودا فهو راض عنّي، وإن كان غير موجود فأنا راض عن نفسي!!” ولذلك يرى الباجي أنه سينال إحدى الحسنيين، وهو سرّ طمأنينته، فناصر شريط “لا ربي ولا سيدي” العنوان المقتبس من عبارة “بْرودون” “ni maître ni patron” مؤسس الفوضوية الماركسية في فرنسا. وبنت الدولة رؤيتها على أنه “لا دخل للدين في السياسة لكن يحق للسياسة أن تتدخل فيه” فْرندْسي” تفتي في عقائد الناس وعباداتهم وتفرض عليهم الإفطار في رمضان.

لم يترأس الباجي وريث اللائّكي بورقيبة، مجلس وزراء يوما إلا عن الميراث. يرى أن الدولة وحدها المخولة بتأويل الإسلام قبل الفقهاء، والدّستور وحده مرجع الدّولة المختزلة في شخصه. في حين أن نصوصه نفسها تأويلية ومن ضمنها “مدنية الدولة”. في محاولة الإيهام بالحياد، الذي يراد منه أن يغطي على مشروعها في فراغ القيم وتلاشي الهويّة واحتقار الدين وظل جوهر الخديعة ماثلا، يصور الدولة مجرد آلة إجرائية تطبق الدستور وطبقة تكنوقراطيّة محايدة تحرّك دواليبها البراغمتيّة. ولكن الحقيقة أن ما يُرادُ هو موقف أخلاقي للدولة يتملص من الأخلاق و”مدنيّ” من الدين يحشره في زاوية الفلكلور والمناسبات و”تقدّميّ” من الهويّة يعتبرها منتهية الصلاحيّة. فحين تجافي الدولة الدين وتهمشه، تنسى أنها تجافي كل المخزون الرمزي الجمعي. فالموقف من الدين هو موقف من الإرث الرمزي… و”تحرير” الدولة على هذا النهج يبيح لها غير إختصاصها ويخلق بينها وبين المجتمع إنفصالا، كالذي تشكل في عهد الإستبداد الصلب الذي اعتمد على قهر أجهزة الأمن وجيش المخبرين، أو كالذي يتشكّل اليوم في عهد الإستبداد السائل الجديد الذي يحسم معاركه إنتخابيا بوسائل القهر الدعائي.

حسْم علاقة الحاكم بالمحكوم وتنظيم الدين بالدولة، “أم المعارك”، شطرت المنطقة وطبقتها السياسية بعد الإستعمار. والعلمنة المقبولة لا تعني إلاّ الفصل بين الإعتقاد الديني وكيفية إدارة شؤون المجتمعات ولا تعني أن ما ترتضيه الشعوب دينا وعقيدة وتشريعا ننقلب عليه بالمؤسسات الدستورية للدولة. ونعامل الشعب معاملة القاصر. ورغم أن روح الإنسان الحديث غير دينية، فإنني كلما سألت عائدا من الغرب عن عيش الناس هنالك وأخلاقهم أجابني: “الدين عندهُم مِش عنّا”. جملة رهيبة تبين أنه لم تهتز ثقة التونسيين يوما في أن قيم الإسلام وروحه ولا أقصد تفصيل تشريعه، يمكن أن تكون منصة للعروج الحضاري. يملك هذه الرؤية الإسلام الشعبي قبل الحَركي والحزبي، وهذا سبب هروب نخب البؤس من الإستفتاء في قضايا دينية لأنها ستواجه وعيا ثابتا بأن تخلفنا ليسا ناجما عن الإستمساك بعُرى الدين بل عن إستبعاده.

“الدين الذي لا ينفع الإنسان قبل الموت.. لن ينفعه بعده” على حد قول علي شريعي. واستئصال الإسلام بما إقترفه مسلم، لا يقل بلاهة من قطع جذع شجرة بتعلّة موت أوراقها. ولكن ليست المشكلة في اعتبار الدين مشكلا، بل في عدم سموّ البدائل المقترحة إلى إنجازه وهو في متوسط حالاته أو أضعفها حين حَكمَ. فما اجترحته النخب بديلا عنه لم يصلح لا لتحديث أو حداثة، مجرد مسخ على شكل دولة، “لا جات قِربْة ولا قزْمُوط” بل عمودا فقريا للعالم الثالث، بدليل بعد أن غادرها بورقيبة وهي في المرتبة 80 في مدركات الفساد وبن علي الحكم وهي في المرتبة 76، و”الدين لله والوطن للجميع” في الغرب، تعني في تونس “الدين لله والوطن للعلمانيين والسارقين… وما تبقى منه، ذراعك يا علاّف”.

في جدل الثابت والمتغير، يُطرح سؤال : ما قيمة دين لا يرتبط إلا بزمانه ؟؟ حينها يصير دينا بخصائص المُوضة، تنتهي حين يزول مُعجبوها، ثم تبحث عن الدّيْن الجَديدْ، بلغة عادل إمام”.. هههه دين لا يحرّم الشرع فيها ما يبيحه القانون. وعند الإخفاق في وضع قوانين وضعية لا بد أن ننجح في جعل الدين وضعيا !!!، وننخرط بدعوى التجديد في برنامج دولي لـ”دين منزوع الدّسم”، بينما الأصل قول الإمام علي : “الدّين أُسّ والسلطان حارس، فما لا أسّ له فمهدوم، ومالا حارس له فضائع”. ما يؤلمني أن الكنيست الإسرائيلي يصادق على يهودية الدولة، وشرذمة تونسية تجرّد الدولة من مرجعيتها. شر الملوك من خافه البريئ، والزمان ما فسد فيه الوالي والرعية، وأجوف تجارب الحكم التي يضيع فيه زمن دون مراكمة نضج سياسي تبنى فوقه الأجيال طوابق الإعمار. وحين تتابع مسيرة “شارلي شابلن” يتبين لك أن : المهرّج الممتاز ينتهي فنّانا والمهرّج السيّئ يصير رئيس دولة يحرُس التخلّف.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock