أزمة التعليم الثانوي تداعيات…
قرار جامعة الثانوي مقاطعة امتحانات الثلاثي الأوّل ينذر بالتحوّل إلى مأزق نقابي بتداعيات مصيرية على وحدة القطاع ووحدة المنظمة النقابية وعلى دورها الوطني مستقبلا، وبالتالي إلى مأزق سياسي يتجاوز بكثير منطلقاته المهنية المعلنة. السياق الوطني لتحرّك يتمسّك -ولو ظاهرا- بصبغته النقابية المطلبية مزروع بألغام سياسية كثيرة مستجدّة الأغلب أنها لم تكن متوقّعة زمن إقرار هذا التحرّك الراديكالي (حتى لا نسقط في التفسير التآمري غير المدعوم ببيّنة).
جامعة الثانوي تدخل معركة تريدها نهائية وحاسمة. رهانها مقابل الوزارة وتجاه منظوريها هو تحقيق كلّ أهدافها التي دفعت من أجلها السنة الفارطة ثمنا كبيرا من مصداقيتها ورصيدها الأخلاقي أمام الرأي العام التلمذي والشعبي قبل ان تنتهي بالاستسلام لحسابات خفيّة ومتحوّلة لمركزية نقابية منخرطة كليا في حسابات سياسية يبدو أنها لا تملك شروط المناورة الاستراتيجية فيها لنقص فادح في وزن القياديّين الطارئين على منظمة عريقة مثل اتحاد الشغل. تدرك الجامعة وتتجاهل حجم الخيبة والمهانة والمرارة والانقسام الذي خلفه فشلها في السنة الفارطة، لذلك هي تراهن الآن على تدارك هزيمتها بعقلية انتحارية.
رهانها مقابل المركزية النقابية التي تحفّظت على دعم شكل التحرّك الذي اختارته هو إعادة التموقع في موازين القوّة داخل الاتحاد، إذ لو ينجح اليعقوبي في قيادة هذه المعركة فسيثأر لفشله في الوصول إلى التنفيذي في المؤتمر الأخير وسينطلق بأوفر الحظوظ للمؤتمر القادم.
المستجدّ الأخطر في السياق الوطني أن هذه التحرّكات التي يخوضها قطاع الثانوي تخدم موضوعيّا أطرافا سياسية لا وطنية بصدد خوض معركة شاملة ضدّ الحكومة الحالية (لا يعني هذا أن الحكومة الحالية وطنية ومؤتمنة على الثورة). ونعني تحديدا السبسي الابن التائق لوراثة “ثروة” أبيه ممثلة في الحزب والحكم (لا فقط منصب الرئاسة)، في تحالف فاجأ الجميع (وما زالت حيثيات حدوثه دوافعَ ورهاناتٍ سرّا حتى الآن) مع سليم الرياحي الظاهرة الأشدّ بؤسا في المشهد التونسي بعد الثورة إذ يمثل تركيبة نوعية بين المال الأجنبي المخابراتي القذر والضحالة السياسية المقرفة والطموح الشخصي المرضي. هذا التحالف الهجين يتّجه نحو استباحة كلّ الخطوط الحمر للحلول محلّ الشاهد الخارج حديثا من “انتصار” سياسي كبير بحصوله على تزكية برلمانية لحكومته بعيدا عن حزبه الأمّ وبتحالف دراماتيكي مع النهضة ومشروع تونس متقدّما نحو تأسيس حزبه الخاص ومستقبله السياسي الواعد على أنقاض عمارة السبسي السياسية برمّتها.
المقرف أن نداء عائلة السبسي والرياحي المندسّ وأنس حطاب الطارئة على السياسة (الأصل أن مثل هذه البروفيلات لا توجد أصلا في بلد حدثت فيه ثورة) يستعملون -الأكيد لصالح غرفة سياسية داخلية وإقليمية مجرمة- لإزاحة الشاهد وحليفته الظرفية النهضة الجبهة الشعبية اليائسة من الانتخابات (والتي تزوّدها الرئاسة المختطفة بأدوات عمل جديدة كلّ يوم حسب تطوّر الوضع). والأخطر أنهم يوظّفون موضوعيا في معركتهم الفوضوية هذه اتحاد الشغل المترنّح بسبب ارتباك خياراته السياسية. فبعد دور مركزي في وثيقة قرطاج يتحوّل إلى المطالبة برأس الشاهد بشكل علنيّ ثمّ يتراجع وينخرط في تهدئة تخلى خلالها عن مطلب إزاحة الشاهد وتوصل معه إلى اتفاق في القطاع العام قبل أن يتحوّل مرة أخرى إلى الموقع الحالي. موقع قد يكون فيه حكما بين معسكرين سياسيّين لا أحد منهما يليق بالدور المفترض للاتحاد.. حكما أو ضحيّة.
طبعا لست مع القول بأن الاتحاد يخدم بوعي أجندة النداء المتحوّل إلى عصابة، ولكنه قد يجد نفسه موضوعيا خادما له بسبب تخوّفه من تغوّل الشاهد المدعوم من قبل المؤسسات المالية العالمية. وهو تخوّف حقيقي ولكنه سابق لأوانه كثيرا نظرا إلى أن الشاهد لم يستكمل شروط بناء “مشروعه” السياسي في حدّه الأدنى بما يجعله مشروع دكتاتور كما يروّج البعض، فضلا عن أن خطاب التخويف ينطوي على مبالغات الهدف منها التشكيك في الديمقراطية من أساسها. في نهاية الأمر، إن كان لا بدّ من المفاضلة بين شرّين ماثلين، سيكون الشاهد الطامح/الهشّ أقلّ سوءا بكثير من عصابة النداء المنفلت.
في هذا السياق، وبالنظر إلى حجم قطاع الثانوي وتداعيات فشل سنة دراسية على الوضع العام، يمكن أن نتوقّع مصيرية كلّ النهايات الممكنة لتحرّكات جامعة الثانوي الحالية.
- لو تستحضر جامعة الثانوي في مفاوضاتها الحالية مع الحكومة هذا السياق السياسي المعقّد، وتفاوض على أرضية وعي سياسي يرى كامل المشهد، ستنجح في حلحلة الوضع وجلب الشاهد الطموح والمهدّد في كلّ مستقبله السياسي إلى مربّع اتفاق جزئي مرض للطرفين بعيدا عن العنتريات التي تصبّ آليا ومباشرة في رصيد النداء/العصابة.
- لو تمسّكت الجامعة بأعلى سقف من المطالب سيكون هدفها تعجيز الحكومة المحاصرة بدقّة الوضع السياسي قبل الاقتصادي، وبالتالي ستساهم في تنضيج شروط سقوط الشاهد لصالح عصابة النداء ولصالح الجبهة التي من الواضح أنّ جزءا منها تبنّى خيار إزاحة النهضة من السياسة بالتنسيق مع غرف مخابرات إقليمية ودولية وبتحالف لصيق مع النداء/ العصابة، تحالف سيجد له مسوّغات تكتيكية كعادته طبقا لفتاوى إيديولوجية ركيكة حول التناقض الرئيسي (مع النهضة) والتناقض الثانوي (مع النداء). تكتيك ستكون هي ضحيّته القادمة لصالح عصابة لا تمارس السياسة.
وحينها سيثبت نهائيا أن جامعة الثانوي ليست بصدد أجندة نقابية وطنية تخدم القطاع ضمن الغاية الأكبر وهي خدمة الديمقراطية والثورة، بل أنها لا تعدو أن تكون يدا إيديولوجية ضاربة تعمل لحساب فصيل حزبي فوضوي أخطا قراءة التوازنات السياسية المتحرّكة، وضحّى بتماسك أكبر قطاع مهني طالما شكّل العمود الفقري لاتحاد الشغل، المنظّمة المستهدفة من خصومها دائما، والتي لا يمكن أن تؤتى إلا من داخلها.. ككلّ القلاع الحصينة عبر التاريخ.