الضّرب والتّعليم
#أقولها_وأمضي
من بين المواضيع التعليمية المسكوت عنها أذكر الجروح الغائرة التي يخلّفها الأسلوب القاسي والمتخلّف في التعليم والتنشئة حين يلجأ المدرّس أو المربّي إلى استخدام الضّرب والتعنيف وما يتركه ذلك في نفوس الأطفال من مآسٍ وكلومٍ وآلامٍ، هي صامتة في الظاهر، لكنها في الباطن تبقبق كالقدر التي تغلي بما فيها.
لقد استفزّني أحدهم خلال دورة تدريبية، وهو مسلم من أصول افريقية، فقال لي : أريد أن أسألك أيها الأستاذ عن رأيك في الضّرب، وذلك أنَّني عانيت الأمرّين من الضّرب، حتّى أن الشيخ الذي كان يعلّمني القرآن، عذّبني بمائة وثلاثين جلدة على رجليّ عن طريق الفلقة، لأنني نسيت نصف صفحة ممّا حفظته، فهل يجوز لهذا الشيخ أن يجلد كلّ هذا الجلد من أجل النسيان ؟
أصابتني صعقة وأنا أسمع هذه الشهادة، وسكتّ لهول ما سمعت… فأضاف المعلم قائلا : وعندما كبرنا قلنا له في ذلك، فاعتذر، ولكن بقي الأمر في نفسي ونفوس التلاميذ الآخرين، حتئ أننا أنشأنا مجموعة نقاش على الشبكة وتطارحنا الموضوع بيننا…
فأجابه معلّم آخر قائلا : أنا أيضا كان والدي يضربني ضرباً مبرحاً، وأنا الْيَوْم أقول : لعل ذلك الضّرب هو الذي جعل مني الْيَوْم شخصاً مستقيماً ! ثم توالت ردود الأفعال على القولين، ودخلنا في نقاش متشعّب حول استخدام طريقة الضّرب في العقاب، وما تخلّفه في النفوس.
على أنّ أسوأ أنواع الضّرب في التعليم وأبلغه أثرا في النَّفْس هو الضّرب الذي يصاحبه الغضب والتشفّي، وهو ضرب فيه نتن السادية التي هي التلذذ بتعذيب الآخرين، لا الضّرب التأديبيّ الخفيف غير الموجع الذي يكون هدفه نفسيٌّ بالدرجة الأولى، لكن هات من يستطيع السيطرة على نفسه فيميّز بين هذا وذاك ! وهات من يمنع نفسه من التشفي فيمتنع من أن يفثأ عطشه للانتقام بالضرب المبرح الذي يترك في النفوس آثارا قلّما تمّحي ! إنّ ذلك لمن الصعوبة بمكان !
فهل فكّر المعلّمون الذين يضربون المتعلمين في آثار الضّرب المدمّرة وما تخلفه العقوبة البدنية من انكسار في النفوس، وشعور بالدونية، وخوف ورهبة، وكره للتعلم؟ هل طالع المعلّمون الذين يضربون المتعلمين كتبا ودراسات وشهادات عما تخلفه تلك الطرق البالية من آثار نفسية عميقة، على مستوى الفرد والمجموعة ؟
نعم، كثيرون هم أولئك الذين يقولون : لقد كان الاحترام سائداً والخوف قائماً لما كان الضّرب،. أما الْيَوْم فالتلاميذ حين أمنوا الضّرب سقط من اعتبارهم المعلم والأستاذ ولَم يعد لهم به اكتراث.
والحقيقة هي أن الزمن تغير والثقافة العامة تبدّلت بتبدل الحال، فلم يعد المعلم الْيَوْم هو الملهم ومصدر المعلومة الأوحد كما كان في السابق، حين كان الأولياء يأتون إليه بصبيانهم قائلين : نعطيك اللحم وحاسبنا بالجلد ! لقد ولّى ذلك العهد وانقضى ! وصار دور المعلم أعقد بكثير مما كان لأنه عليه الْيَوْم وزر التحفيز والتوجيه والمرافقة والتنشئة بالمثال، وليس مجرد التلقين للمعلومة كما كان الشأن في خوالي الأيام.
على أن كبار العلماء في علوم التربية، قديماً وحديثاً، لا يعترفون للضرب المبرح بأي فضل على الإطلاق، فالضرب يكسر النفوس ويذلها ويغشمها. وهذا العلامة عبد الرحمن بن خلدون يقول في كتاب المقدمة كلاماً، لو كنت من أهل المسؤولية لعلّقت نصّه في جميع نوادي وقاعات المعلمين، وهو قوله :
(وذلك أن إرهاف الحدّ بالتّعليم مضرّ بالمتعلّم سيما في أصاغر الولد، لأنه من سوء الملكة. ومن كان مُربّاه العسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم، سطا به القهر وضيّق عن النفس في انبساطها وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل وحمّل على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلّمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادةً وخلقاً، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمرّن، وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله، وصار عيالاً على غيره في ذلك، بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها … فارتكس وعاد في أسفل السافلين. وهكذا وقع لكل أمّة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف، واعتبره في كل من يملك أمره عليه ولا تكون الملكة الكافلة له رفيقة به وتجد ذلك فيهم استقراء).
#بشير_العبيدي . ربيع الأول 1440
كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تَصْنَعُ أمَلًا