إتحاد الشغل: الإضراب المشروع في التوقيت الحرام
كان من الطبيعي بعد ثورة أدعت القطع مع النظام القديم، أن يراجع التونسيون إرث الدولة النوفمبرية التي كانت في عمومها إمتدادا للدولة البورقيبية. وكان إتحاد الشغل كهيكل وتاريخ وأداء في مقدمة العناوين التي وضعت على صراط المراجعه. مراجعة حجمها وموقعها ودورها، وقد إنحصرت خلاصات الموقف من المنظمة الشغيلة بين متحمس للتمسك بها وتعزيز دورها الوطني، والذي توزع بين النضالية زمن الإستعمار، وحفظ التوازن مع الحزب الحاكم ومواجهة تغول الدولة زمن الإستقلال، وبين مشكك في هذا الدور بمستند قابلية المنظمة المستمرة للتدجين والتواطئ بالصمت مع إنحرافات الدولة طيلة الخمسينية السابقة.
وقد ذهب هذا الفريق بعيدا في ترذيل إتحاد الشغل وتحميله جزء يكبر أو يصغر من المسؤولية في التمكين لدولة البولبس طيلة الحكم النوفمبري، وكانت محاولات تأسيس منظمات نقابية موازية التعبير الأقصى على تجريم المنظمة الشغيلة بجرد الماضي وحساب الحاضر. لكن مع ضعف المحتوى الثوري والجذرية في التعاطي مع الموجود السياسي بعد الثورة. سرعان ما أستعادت المنظمة الشغيلة موقعها َودورها في قلب المشهد العام. كان منتظرا بعد الثورة أن تتوضح خطوط الفصل والتماس بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، وأن ترسم حدود الفصل والوصل بالصيغة التي يستعيد فيها المجتمع الحزبي دوره الوظيفي كمجتمع حكم معني بإدارة الشأن العام، والمجتمع المدني كفضاء رقابة للسياسي وتقويم وتجويد لدوره ووظيفته، مع الحفاظ على مسافة تتيح له التمسك باستقلاليته عن أجندة الفضاء الحزبي، قطعا مع تقاليد زمن الإستبداد، والتي تحمل فيها المدني وزر السياسي وتحول المدني مع تأميم الفضاء السياسي بقوة العنف الرسمي إلى ملجأ لتونس المناضلة والمعارضة للنظامين البورقيبي والنوفمبري. وكان إتحاد الشغل من أهم “المظلات” التي أستظل بها السياسي لحماية وجوده الجسدي أولا، تمرير أجندته النضالية من ناحية أخرى.
لقد كان فائض التسيس الذي ميز المجتمع المدني زمن الإستبداد يجد مبرراته في غياب الفضاء السياسي، الذي كانت تحتكره السلطة، وتضرب بعنف وقسوة كل محاولات الإقتراب منه فضلا عن تحريره من قبضة الحزب الحاكم.
وهكذا رغم حركية المجتمع المدني وحيويته ودوره الوازن في العديد من المحطات للحد من تغول الدولة وحزب الدستور، فقد تطور معطوبا بثقل حضور السياسة بحساباتها ورهاناتها القريبة والبعيدة، وبدى في آخر سنوات الحكم الموفمبري منهكا أخلاقيا وتاريخيا ووظيفيا بتحمل وزر المجتمع السياسي، والقيام على وكالة ثقيلة وغير معلنة عوّض بها غياب وتغييب السياسي المطارد والشريد طيلة العقود الخمسة من عمر دولة الإستقلال.
كان من المفترض مع الزمن السياسي الجديد الذي دشنته الثورة أن يستعيد المجتمع المدني هويته وموقعه ودوره الطبيعي كفضاء بيني ويجسد مبدأ الرقابة الأخلاقية على السياسي ويعمق مبدأ التشاركية في إدارة الشأن العام من موقع المبادرة المواطنية المفتوحة والمستقلة عن أجندة السياسي وحساباته المتعلقة بموضوع الحكم.
إلا أن منسوب الفوضى الذي عممته ومآلات المشهد السياسي قد فاض ليستغرق المجتمع المدني فتداخلت فيه المواقع والأدوار وأصيبت أغلب وحدات المجتمع المدني بداء التسيّس والإصطفاف وراء الأجندات الايديولوجية والسياسية المتهارجه حول موضوع السلطة والتحكم في المصير العام.
لم يشذ الإتحاد العام للشغل عن القاعدة وبرز في العهدة التأسيسية زمن حكم الترويكا كذراع ايديولوجي وسياسي بيد معارضة الترويكا والنهضة تحديدا. وكانت فضيحة الأكثر من ثلاثة آلاف إضراب قطاعي في سنتين، الأكثر تعبيرا عن حجم تورط المنظمة الشغيلة في أجندة المعارضين لحكم الترويكا، مما جعل الأصوات تكثر وتتعالى للتنديد بتغول إتحاد الشغل والتنبيه لدوره التخريبي المكشوف للعملية السياسية ومنجز الثورة ذاته. وقد إستغل الإتحاد قوته التنظيمية (الماكينة) والحضور التاريخي ليسارية نقابية متشنجه ومتوجسة من غريمها الايديولوجي (الإسلاميين) وضعف “المنتجع الحزبي” ليقوم بدور مفصلي في توازنات المشهد السياسي، بل ولينتصب كوسيط وحكم وازن في تحرير السياسة من ممكن إنزلاقها إلى دائرة التحارب الأهلي مع نهايات العهدة التأسيسية. وقد نجح إتحاد الشغل يومها في الهروب من زاوية الإدانة الأخلاقية والسياسية لدوره المركزي المشبوه في تعطيل قطار التجربة السياسية الواعدة بعيدة الثورة، بل وخرج من الزاوية موشحا بجائزة نوبل للسلام إعترافا بدوره التاريخي الوازن في إنقاذ التجربة من ممكن التهارج العام على ما تسجله مخرجات الحوار الوطني، الذي أشرف عليه وأداره باقتدار حسين العباسي الأمين العام للمنظمة بمعية منظمة الأعراف وعمادة المحامين ومنظمة حقوق الانسان.
صحيح أن المركزية النقابية قد أستعملت المباح نقابيا وغير المباح سياسيا لإسقاط تجربة الترويكا في العهدة التأسبسية، وصحيح أيضا أن نفس تلك القيادة قد قادت باقتدار الحوار الوطني وأخرجت البلاد من عنق الزجاجة، وجنبتها ممكن التحارب، كما من الصحيح أنها إستجابت لفلسفة وثيقة قرطاج الأولى وجوهرها ضرورة الإلتفاف حول برنامج إنقاذ وطني على قاعدة محاربة الإرهاب والفساد والإصلاح الشامل لوضع تونس على سكة التنمية وتنشيط الإقتصاد الوطني. والأكيد أن المنظمة الشغيلة في قلب التوازنات السياسية التي تدير المرحلة البينية الحساسة والمفصلية وتهديد الإتحاد اليوم بالتحرك الإجتماعي واستعمال سلاح الإضرابات في القطاعات الأكثر حساسية كالتعليم والنقل والصحة والوظيفة العمومية، هو بالنهاية عودة للأصل في العمل النقابي، وهو الدفاع المشروع على مصالح وحقوق منظوريه، ومن يقف ضد هذا الحق بداعي المصلحة الوطنية قد يفهم، ولكن من السهل محاججته بأن الدفاع عن حقوق العمال في صلب تلك المصلحة ومن مقوماتها.
يبقى هناك “شيء ما” قد يقلق وقد يقلق جدا، وهو ما يتصل بالتجاذبات حول حكومة الشاهد الجديدة/القديمة حيث لا يمكن إستبعاد فكرة أن الطبوبي موضوعيا هو في قلب استراتجية جماعة نجل الرئيس التي تعمل بكل المتاح لإثبات كارثية الوضع في ظل قيادة الشاهد، ولعل مما يعزز هذا الرأي هو وجود قيادات نقابية مؤثرة في مراكز قرار المنظمة قريبة من يسارية مازالت تؤمن أن الإصطفاف السياسي خلف خصوم النهضة يجب أن يبقى من ثوابت استراتجية المنظمة وأداءها، دون الإكتراث للتضحية بمبدأ إستقلالية المنظمة والعمل النقابي، خاصة وأن ذاكرة المنظمة طيلة خمسينية الإستقلال تفصح بوضوح على تجاوز واعتداء فاحش ومتكرر على مبدأ إستقلالية العمل النقابي.
الإضراب حق مشروع بالأمس واليوم وغدا، ولا يناقشه عاقل، وحاجة البلاد للأدنى أو الأقصى من الإستقرار واجب وقت وساعة، والموازنة العاقلة بين حد المصلحة القطاعية والمصلحة العامة هي التي ستحكم للإتحاد أو تحكم عليهم.
الرأي العام