غزة، الأرض المحرّرة من المجال العربي المحتل
ملابسات الانقسام الفلسطيني معلومة منذ 2006، عندما فازت حركة حماس بانتخابات المجلس الوطني التشريعي. وكان فوزها سببا لتخلّي “الرباعية” (برئاسة السمسار توني بلير) عن دعم التجربة رغم أنّ الانتخابات جرت تحت “سقف أوسلو”. وسببا في رفض حركة فتح والسلطة تحمل أعباء المرحلة مع حماس، وترك حماس بمفردها لتشكيل “الحكومة الفلسطينية” تمهيدا لإفشالها ومقدّمة لاستئصالها (كان هناك موقف مشابه، عشية الانتخابات التأسيسية في 2011 بتونس منع توسيع قاعدة الحكم). ولكن المواجهة المفروضة على 6 آلاف من “القوة التنفيذية” (حماس) و17 ألفا من “الأمن الوقائي” (فتح والسلطة) انتهت بهزيمة “فلول دحلان” وعزل غزّة وحصارها، واعتقال أغلبية أعضاء المجلس الوطني التشريعي ورئيسه من قبل الاحتلال في الضفة، وتدشين حملة اعتقالات واسعة في صفوف حماس ورموز المقاومة ومصادرة مؤسساتها التعليمية والاجتماعيّة ونسيجها في المجتمع المدني الفلسطيني. ثم كانت حروب العدو الثلاث على غزة لشطب المقاومة.
اليوم تعيش حماس وفصائل المقاومة في الضفة الغربية تحت قمع مضاعف: قمع العدو وحملاته التي لا تتوقف، وقمع سلطة أوسلو وحملاتها الإعلامية. فسلطة أوسلو تمثّل النموذج الأوفى للاستبداد العربي العميل. وإذا كان النظام العربي المستبد يجد في الانفصال الجغرافي لداعميه من الاستعماريين القدامى والجدد، ما به يبرّر استبداده، وقد يضفي عليه “بعدا وطنيا زائفا” (سورية، مصر في الأيام الأولى للانقلاب)، فإنّ واقع الاحتلال الصهيوني الاستيطاني و”مجاورته” لـ”سلطة أوسلو” وحقيقة التنسيق الأمني لقمع المقاومة وإرادة التحرير، تكشف زيف هذه المسافة التي يتخفّى وراءها نظام الاستبداد العربي ونخبه “الحداثية”، وتفضح “تنسيقه الأمني” ضدّ تأسيس الحرية والمواطنة الكريمة. واوضحت هذه الصورة بعد 2011.
أمّا في غزة المحاصرة، فإنّ “سلطة حماس” لم تمنع تعدد عناوين المقاومة بما هي حرية تعبير وحركة وتدرّب على السلاح، رغم ما يستجد من حين لآخر من احتكاكات يتم تجاوزها في ظل ثقافة مقاومة تدرك معنى الحصار ولا تسمح باختلال توازن في الاولويات. فماهية المقاومة حرية، وإذا استبد المقاومون كفوا عن أن يكونوا أحرارا، وفقدوا مبرر قيامهم.
ولم تكن حملات سلطة أوسلو الأمنية والإعلامية ومساهمتها في تشديد الحصار مرة بقطع الرواتب وأخرى بتعطيل المصالحة وتكثيف حملات الاعتقال، سببا لمنع ناشطي فتح من حرية الحركة والتعبير والانخراط في المقاومة في غزة.
المقارنة بين حال حماس في الضفة وحال فتح في غزة صورة حقيقية عن علاقة القوتين بفلسطين وبالحرية والمواطنة. وهي نفسها العلاقة بين قوى المواطنة ونظام الاستبداد العربي التابع والمدعوم إمبرياليا.
ومثلما مازال لسلطة أوسلو من “انعدام المروءة” ما يسمح لها بالتكلم بطريقتها باسم “الحق الفلسطيني”، وهي تمعن في التفريط فيه وشطب شروط استعادته، مازال لنظام الاستبداد العربي وسيستامه ونخبه من “قلة الحياء” ما يسمح له بالاستظلال بمعاني الوطنية والمدنية والحداثة ومناهضة التطبيع، وهو يثابر في منع تأسيس الحرية وبناء الديمقراطية واستنبات شروط المواطنة الكريمة.
أسباب الانقسام الفلسطيني، هي نفسها أسباب الانقسام في المجال العربي.
يُسمح للقوى التابعة، ونموذجها سلطة أوسلو، بحرية المناورة و”التڤويش” أحيانا، ولا يُسمح لضديدها من قوى المواطنة حتى بتنسيب “قيم الحداثة”، فضلا عن الاعتزاز بالخصوصية والمرجعية الثقافية، ويكون دعمها للمقاومة دعما للإرهاب وتُعدّ مناهضتها للتطبيع موقفا عنصريا ونشرا للكراهية وعداء للسامية. فتلجأ إلى التقية، والمناورة، وقد تنحرف في سياقات معينة وموازين قوى مختلة فتخرج من جلدها، دون أن يكون ذلك سببا “وجيها” لـ”معرفتها”.
وتمثّل غزّة حالة استثنائية، فالمقاومة تقول خطابها كاملا غير منقوص، وتختار فعل المقاومة ورد العدوان بكل ما أتيح من وسائل، لأنها حرّة. فغزة هي المنطقة الوحيدة المحررة من المجال العربي المحتل. فكيف يكون الحال إذا تحررت الضفة؟ أمّا تحرير فلسطين فسيكون، شاهدا على منعرج عالمي كبير يفسّر ما قبله وما سيكون بعده.
المعركة في المجال العربي واحدة، وتمثل فلسطين صورتها الأنصع والأكثر أصالة والأصدق مرجعية.