الدولة ومرتكزات بناء السلوك الحضاري… المراجعات الضرورية

بشير ذياب

السلوك الحضاري، المحافظة على النظافة، المحافظة على النظام، إحترام القانون، كلها مفردات أو مصطلحات إستهلاكية نلوكها منذ عقود دون أن تترسخ لها قدم في هذه الأرض أو عليها، فهل أن المجتمع التونسي غير مهيء فكريا وإجتماعيا لممارسة هذا السلوك أم أنَ السَبب خارج عن إطار المجتمع وتتحمَله أطراف أخرى ؟ كان يفترض أن تهيَء له أسباب وجوده أولا ثم أسباب إحترامه والمحافظة عليه في مرحلة لاحقة ؟

سؤال يتبادر إلى الذَهن في كل مرة نحسَ فيها أننا خارج إطار الحضارة نفسها، خاصة في ساعات ذروة الحراك الإجتماعي في المناسبات والأعياد، حين تزدحم الشوارع والطرقات بالسيارات والمارة وتتكدس القمامة حيثما ولَيت وجهك، وتصاغ التقارير الإعلامية خارج إطارها الزماني والمكاني، محمّلة المسؤولية للمواطن لأنه لم يراع أوقات رفع الفضلات، وكأن عصافير العمل البلدي تزقزق و”كميون البلدية” يمكن أن تعدَِل عليه ساعتك ولم يعكَِر هذا الصَفو إلا عدم إلتزام المواطن المتخلَف الذي مازال لم يرتق بعد لمستوى إلتزام عامل النظافة ومَنْ وراءه من إطارات تسيير، الذين لو غادروا مكاتبهم وراقبوا أعوانهم لما توقفت ”كماين البلدية” طوابير أمام مراكز تجميع البلاستيك دون مساءلة، ولما تحولت أجهزة العمل البلدي إلى مقبرة ”خردة“.

إذا كانت المظاهر المادية للحضارة تتطلب بنية تحتية مادية في حدّها الأدنى تراعي في مجملها سلامة الناس والمعدات سواء في المطارات أو في المستشفيات أو الطرقات أو وسائل الإتصال، فإن السلوك الحضاري يتطلب كذلك بنية تحتية مادية وفكرية ترسِّخه وتحافظ عليه، ودون ذلك لا يمكننا الحديث عن سلوك حضاري إلا إذا كنا نريد الحصول على شيء من لا شيء.
فالمحافظة على النظافة تتطلب أولا إيجاد النظافة أولا، والمحافظة على النظام تتطلب إيجاد النظام أولا، والمحافظة على الأخلاق تتطلب إيجاد الأخلاق أولا، وتتطلب جميعها في مرحلة ثانية إيجاد الآليات اللازمة لترسيخها ثم بثّ الوعي لدى العامّة للمحافظة عليها كمكتسب وطني مشترك، وإيجاد كل هذه المتطلبات المادية والفكرية والمعنوية هي أساسا مهمة الدولة ولا يجب على الدولة أن تتفصّم من واجباتها، فلا يمكن للمجتمع أن يٌحْدث من تلقاء نفسه جهاز تنظيف بأعوانه ومعدّاته، أو مستشفى عموميا أو مطارا أو حديقة عمومية أو إدارة، كما لا يمكنه أيضا أن يحدث ما يلزم هذه الأجهزة لصيانتها والمحافظة على سلامتها بل إن المجتمع نفسة يمثل حلقة من حلقات هذه الأجهزة الحضارية طبقا لقوانين تحٌدٌّ من عشوائية حركته مواطنا كان أو مسؤولا، هذه القوانين واللوائح تصوغها الدولة وتسهر على تطبيقها بجهاز إداريّ فعّال وتقوم بتحديثها متى لزم ذلك لأن هذه المؤسسات العمومية ثقافية كانت أو صحية أو ترفيهية هي التي تؤشّر على قوة الدولة أو ضعفها لأن العصب الرئيس الذي تتحكم من خلاله الدولة هي شبكة الإدارة التي تٌسيِّر من خلالها هذه المؤسّسات.

يبدو أن الدولة ومنذ الإستقلال لم تكن تتحرك في إطار خطة عمل إستراتيجية تمكنها من المحافظة على الموجود والبناء عليه وتطويره، ويظهر ذلك جليا في قطاعين حسّاسين وهما الفلاحة والبنية التحتية للنقل البري والحديدي وخاصة في شمال البلاد، فلو أن دولة الإستقلال حافظت على الضّيعات الفلاحية على نفس وتيرة الإنتاج التي كانت عليها زمن الإستعمار وحافظت على شبكة الطرقات والسكك الحديدية ووفرت لها الصيانة اللازمة لكان الشمال أحسن حالا ولما كنّا نستورد قوتنا من وراء البحار، ولكن هذا لا يلغي المجهود الذي بذلته آنذاك في مجالات أخرى كالتعليم والصحة، ولكن هذا يجب ألا يلغي ذاك وإذا أراد الدستوريون أو التجمعيون أن يقوموا بمراجعات فعليهم أن يراجعوا أولا إستراتيجياتهم في الحكم قبل الحديث عن الديمقراطية وكأن ما كان ينقصهم هو السماح بالتعددية الحزبية، وعند الحديث عن المكتسبات يجب ألا نقارن تونس اليوم بتونس التي إستلمها الزعيم الراحل بورقيبة، فأندونيسيا بعد مهاتير محمد لا يمكن أن تقارن بتونس بعد بورقيبة أو بعد بن علي، فالمراجعات إن وجدت يجب أن تشمل أيضا كيفية الحكم أما مجرد مقارنة الأرقام وغض الطرف عن الدمار في القطاعات الحساسة كالصحة والتعليم والنقل الذي أوصلتنا إليه هذه الكفاءات فإنه لن يكون مدخلا مفيدا لأي نوع من المراجعات.

على جميعنا اليوم سياسيين ومثقفين وإعلاميين ومربين ونقابيين أن ندرك أننا خرجنا بدولة مدمرة على جميع الأصعدة وعلينا أن نساهم جميعا كل في ما يخصه في إعادة البناء بعيدا عن المهاترات السياسية والإيديولوجية الرخيصة، وعلينا بدلا من الحديث “الماسط” عن السلوك الحضاري والقيم الكونية وحقوق الإنسان والنظام وغير ذلك أن نهيّء دولة ومجتمعا البٌنى التحتيّة اللازمة لإنزال هذه المصطلحات حيّز التنفيذ، فلا يمكن أن نطالب آلاف المرضى يتوافدون يوميا من كل حدب وصوب ومن مستويات تعليمية وثقافية مختلفة إلتزام الهدوء والنظام دون أن نوفّر لهم قاعات إنتظار تليق بهم كبشر أولا وكمرضى ثانيا، ودون أن نوفّر لهم أرقاما يستلمونها حسب حضورهم الأول فالأول، ودون أن نفتح لهم الأبواب على الأقل في الوقت المحدد لذلك، ودون أن نوفّر لهم العدد اللازم من الأطباء يلتحقون بقاعات العيادة في وقت يليق بحرمة المرضى ويحفظ إنسانيتهم، دون هذا الحد الأدنى من الإجراءات الإدارية أساسا والتي لا تتطلب ميزانية تكميلية لا يمكن أن نطالب الناس بالنظام وهم يكابدون “الفوضى الإدارية” وأسوق مثال المستشفيات كعيّنة يمكن تعميمها على كل المؤسسات العمومية تقريبا دون إستثناء.

سيقول البعض كالعادة أن المواطن هو أصل الداء وأن المواطن هو المتسبب في الفوضى، أقول هناك مستشفيات خاصة وفضاءات خاصة يرتادها المواطنون يخيم عليها النظام والهدوء والسكينة، ويتحلّى فيها نفس ذلك المواطن بسلوك حضاري راقي، وفي بعض الأحياء الراقية “عمرانيا” حيث توفرت الخدمات البلدية ذات الجودة العالية نرى أن نفس ذلك المواطن حافظ عليها ورعاها، فالخلل ليس في المواطن بل في المنظومة الإدارية المنخرمة أصلا والتي يجب أن تكون الأولى على جدول مراجعات الأحزاب الحاكمة سابقا أو حاضرا أو لا حقا..

Exit mobile version