نور الدين الختروشي
يوم علق الرئيس مبادرة قرطاج 2، كتبت يومها أن الرجل يقفز في مجهول، وأن هامش المناورة أمامه ضيق جدا إذا لم يكن منعدما، أغلب المهتمين بما أكتب على جداري الإفتراضي عارضوا ما ذهبت إليه، واليوم بعد حوار الرئيس على قناة خاصة أظن أن الفكرة قد أصبحت بديهة سياسية يمكن البناء عليها في قراءة المشهد، وممكنات تحول الخارطة الحزبية والسياسية، في أفق ما بعد 2019.
سيادة الرئيس جاء ليعلن نهاية توافقه الشخصي مع الشيخ الغنوشي، في الوقت الذي كان ما تبقى من حلفائه وأتباع نجله المدير التنفيذي للحزب الحاكم “سابقا”، توقعوا أن يعلن تفعيل الفصل 99 من الدستور ويدعو إلى سحب الثقة من الشاهد الذي جاء به للقصبة، وفرضه على صديقه في التوافق زعيم حركة النهضة.
لا يهمني كثيرا الوقوف عند إعلانه على نهاية التوافق فقد “أشبع” الموضوع تعليقا وتحليلا في المنابر الإعلامية في الأيام الثلاثة الماضية، وقيل فيه ما يمكن أن يقال بين مبتهج من نهاية “غمة” التوافق الذي أنقذ البلاد من إستراتجيات إلحاق تونس بمآلات التحارب التي إنتهت إليها بقية الثورات في المحيط العربي، وبين متأسف لـ”خفة” رئيس الدولة الذي من المفترض أن يكون أكثر مسؤولية ورصانة في التعاطي مع التوافق كعنوان استراتيجي يتصل بالمصير العام، ولا علاقة له بتجاذبات يوميات السياسة وطنيا.
ما يهمني في هذا التحليل ليس التركيز على المتداول في ردود الأفعال والتي يكثفها من ناحية حدُّ الترحيب والإبتهاج بهذه النهاية من الأطراف الخاسرة من التوافق أو المعادية من حيث المبدأ والمنتهى لحركة النهضة، وحدُّ الإنزعاج والخوف من تداعيات هذا الإعلان على سمعة البلاد خارجيا وممكن إنهيار معمودية البناء السياسي الذي أنقذ التجربة منذ لقاء باريس الشهير بين الغنوشي والسبسي.
ما أثار الإنتباه هو تأكيد الرئيس أكثر من مرة في الحوار أن التوافق إنتهى برغبة وطلب من النهضة، وأنه يحترم موقفها ولا يملك إلا الإستجابة لمطلوبها،
استغربت حد الصدمة من هذا الإعلان وأسرعت للإتصال بمن أعرف من قيادات حركة النهضة للتثبت من صحة ما جاء على لسان الرئيس، وقد كانت إجابة من سألت واحدة بأن الأمر غير صحيح، والنهضة لم تبلغ لا بالإشارة ولا بالعبارة عن نيتها أو رغتبتها أو إرادتها في الإنسحاب من مربع التوافق.
السؤال إذا لا يتعلق بإعلان الرئيس في ذاته بإنهاء التوافق بل بصيغة هذا الإعلان، والسؤال المباشر هنا لماذا تقوَّل الرئيس على الغنوشي؟ لماذا أصر على أن النهضة طلبت الطلاق؟ لماذا غالط الرأي العام ولم يقل الحقيقة المتعلقة بقراره الفردي ومن جانب واحد لفك الإرتباط بالنهضة أو بصديقه الشيخ الغنوشي تحديدا ؟
كل قيادات النهضة “كذبت” بلباقة وأدب ما جاء على لسان الرئيس وأغلبها رجح أنه بصدد الضغط على الحركة لتتراجع عن دعمها للشاهد.
الرئيس في الحقيقة لا تهمه الحقيقة، والمحمول الأخلاقي لثنائية الصدق والكذب، بقدر ما يهمه رد الإعتبار لهيبته التي يبدو أنه قد شعر بأن الغنوشي قد مرغ أنفها بالتراب لأنه ببساطة لم يستجب لأول مرة لرغبته في تغيير من اختاره بنفسه ليجلس في القصبة، ومعلوم أن الرئيس ينتمي لمدرسة سياسية رئاسوية تعمل بمنطق معي أو ضدي، لا ترى في الإختلاف أصلا في السياسة، بل إعتداءا على الدولة.
هنا مكمن الخطر وصرة كل المعاني، وهنا سقط الرئيس في امتحان الزمن السياسي الجديد الذي دشنته الثورة. ولنا أن نتخيل لو كان السبسي يحكم ضمن نظام رئاسي، وقد أكد مرة أخرى بنبرة عاجز عن “ضرورة” تغيير الدستور بدعوى المصلحة الوطنية.
الباجي في حواره الأخير جاء في الحقيقة لينفس عن “غمة” قلة حيلة مؤسسة الرئاسة في ظل النظام السياسي الذي هندسه دستور الثورة، فقد تستفاق خلال الأسابيع التي تلت أزمة وثيقة قرطاج 2، عن حقيقة حجمه، ومحدودية مربع صلوحياته الدستورية، وكم “غالطت” النهضة السبسي عندما لم تلوي العصا في يده طيلة السنوات الأربعة الماضية ومكنته من هامش مبادرة وحركة أكبر من حجم وصلوحيات مؤسسة الرئاسة دستوريا، وقد صدم الغنوشي السبسي على مائدة قرطاج 2 عندما قال له ولأول مرة : لا.
مفعول الصدمة ما زال ساريا والصدمة هي التي تكلمت على لسان الرئيس منذ يومين على منبر أحد القنوات الخاصة. لم يقبل ولم يتقبل الباجي أن يعارضه شريكه في موقف تقديري للمصلحة الوطنية، في حضرة وسمو المصلحة العامة من الإختصاص “الحميمي جدا” لسيادة الرئيس، لذلك عندما برر زعيم حركة النهضة رفضه لتغيير الحكومة بداعي المصلحة الوطنية، جرح مؤسسة الرئاسة في جبينها.
فالرئاسة من المفترض وبقطع النظر عن صلوحياتها الدستورية أنها تحتكر رمزيا الإستئمان على المصلحة الوطنية أو المصلحة العليا للوطن، وقد ارتكبت النهضة حماقة الشراكة في تقدير المصلحة العامة، أو هكذا على الغالب وبالنتيجة فهم السبسي موقف وتقدير النهضة.
إنتظر الرئيس أكثر من اللازم أن يتراجع شريكه على موقفه من حكومة الشاهد والدخول “كالعادة” إلى خيمة الطاعة الرئاسية، ولما تأكد بعد لقائه الأخير مع الغنوشي أن شريكه لن ينضبط للعرف المسكوت عنه في علاقة الرجلين منذ لقاء باريس وجوهره الباجي يبادر والغنوشي يوافق ليحافظ على التوافق، لما تأكد السبسي من ثبات موقف النهضة من التغيير الحكومي، قرر فك الإرتباط وهو من قال ذات يوم بعد الثورة “أنا لا أشارك في الحكم إن حكمت”.
الباجي في حواره الأخير كان وفيا لهذه الحقيقة وكان يتألم حد الوجع من تذكير الغنوشي له هذه المرة أنه لا يحكم لوحده.
هنا وفي هذا الفاصل يمكن أن نفهم لماذا ادعى الباجي أن النهضة قد أعلمته بفك ارتباطها به ونهاية التوافق، وهو هنا لا “يكذب” فالرئيس إذا كذب كف أن يكون رئيسا، ولكنه يستبق “الرعب” الذي قد يصيب المرتعدين من ممكن رمي النهضة من جديد إلى كلاب الدم المنتظرة ليوم الوقيعة بها في كل منعطف، وهي أيضا رسالة لجزء كبير من المرتعدين في حاشية الشيخ بمونبليزير علها تعلن تمردها على قيادة الغنوشي التي نجحت إلى حد الساعة في تحقيق المطلوب الإستراتيجي للوطن والحزب معا.
تقوّل وادعاء الرئيس على صديقه محسوبا سياسيا وهو أكبر من مجرد الضغط على النهضة للتراجع وتصطف ببلاهة وراء نجله الغبي، بل هو في الحقيقة توقيع بالقلم الأحمر على مشروعية ضرب النهضة، إذا تطور المشهد في اتجاه تجييش وتحشيد خصومها وأعدائها للقضاء عليها وشطبها من المشهد، فكل حملات التصفية الجسدية والسياسية للخصوم السياسيين في الماضي والحاضر وفي كل التجارب تبدأ إما بخطإ الضحية أو بادعاء الجلاد.
والسبسي يبدو أنه دشن أفق “معاقبة النهضة” بادعاء، ما دامت النهضة لم تخطئ ونجحت في القفز على كل الفخاخ والألغام التي نصبت لها في السنوات الأخيرة.
الباجي بادعائه أن النهضة هي من طلبت فك الإرتباط أو الطلاق وإنهاء التوافق يتنصل تاريخيا وأخلاقيا وسياسيا من تداعيات هذا الإعلان الخطير والمكلف، وفي هذا “جبن محسوب” ومفهوم بمعيار ميكيافيلي مخاتل، ويمهد في الحقيقة للعمل على سيناريو ممكن في إحتمالات تطور المشهد وفق تقديره أو تقدير مستشاريه وحاشيته، وهو سيناريو رمي النهضة من جديد للأفواه الجائعة لنهشها والتنكيل بها.
في الحقيقة التي نقدرها الباجي يشرعن لخيار مستحيل، ويؤكد أنه بصدد الخلط بين خط الإستحالة وخط الممكن في الحالة التونسية الجديدة.
مطلوب من النهضة ومن زعيمها تحديدا، أن يخفف على صديقه “الرئيس” أثر فضيحة خيانة الحقيقة في غير المصلحة العليا للدولة.
فكم هو مؤسف وكئيب أن نكتب اليوم، وتقرأ الأجيال القادمة أن أول رئيس منتخب في تاريخنا السياسي قد أنهى عهدته على فضيحة أخلاقية وكان يمكن أن يخرج من بوابة تكريم الفضيلة للسياسة..، واستثناءا تكرم الأخلاق السياسة.
أما التوافق فلن ينتهي برغبة رئاسوية ولا نخبوية فهو ضرورة النطام السياسي الجديد الذي سيشرب مُرَّهُ وحلوه كل من مرّ وسيمرّ على صراط الحكم في تونس الجديدة.. فلا داع لجزع.
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.