الباجي الثاني أو استراتيجية الخطة “ب” بالثالوث
أبو يعرب المرزوقي
لا توجد قاعدة مطلقة في الأساس الذي ينبني عليه التأويل الذي يمكن من قراءة الاستراتيجيات السياسية. لكن لي حدس يجعلني أعتقد بخلاف السائد في قراءة خطاب الباجي الأخير أن البلاد مقدمة على صدام خطير وخطير جدا قد يمصر تونس بعد أن اختار الباجي نهائيا عزل النهضة واعتبار الشاهد “بيدقا” نهضاويا.
فالباجي يعلم أن الورقة الوحيدة التي بقيت لديه هي القبول بخطة الثورة المضادة ضد الإسلاميين في الاقليم كله وتحويل حربها عليهم إلى سلاحه ضد الشاهد الذي توهم جماعته أن النهضة أداة بيده والباجي يريد قلب العلاقة واعتباره هو البيدق بيدها حتى يجمع المثلث الذي اعتمده في 2012.
ولما كان أساس التأويل أي قاعدة التأويل ليس تحكميا (مبدأ في السيميوتكس) -La base de l’interprétation- وكان في هذه الحالة لا يمكن إلا يكون غير التوجه العام للسياسة الإقليمية والدولية تجاه “الإسلام السياسي” فإنه من العسير أن أسلم بأن فرنسا وأمريكا تطمئنان للإسلاميين في بلد من بلاد المسلمين حتى في تونس والمغرب مهما تنازل هؤلاء وقبلوا بما يطلب منهم.
ولما اقتنع الباجي وخاصة بعد نتائج البلديات -وهو ما نبهت إلى خطره على الإسلاميين- بأن استراتجية تذويب الإسلاميين وتهميشهم لم تنجح ولما تبين له أن غيره يمكن أن يركب موجتهم مؤقتا حتى يفتك منه قيادة حركته ثم سيستعملها بدلا منه لاحقا لما له من الوقت بسبب سنه فإنه مر إلى الخطة “ب”.
وثالوثه واضح:
1. بقايا التجمع
2. اليسار وتوابعه من القوميين أو الجبهة
3. ما يسمى بالتيار الديموقراطي وبصورة دقيقة بقايا حزب الشابي وحزب المرزوقي وحزب ابن جعفر.
فكل هؤلاء لهم ثأر من النهضة والإسلاميين عامة لتوهمهم أنها أخذت منهم ما يتصورون أنفسهم أولى به منها. وفي الحقيقة لإيمانهم جميعا بأنهم ليس لهم وزن انتخابي في الشعب يمكنهم من الوصول إلى الحكم ديموقراطيا.
وأكاد أجزم -دون أن يكون لدي معلومات بل هو مجرد تأويل- أن المستقيلين من حزب المرزوقي مؤخرا لهم بنحو ما علم بهذا التخطيط الجديد للسبسي.
فتبريرهم للقطيعة مع المرزوقي يشبه إلى حد كبير تبرير الباجي البارحة لشهادة وفاة التوافق مع النهضة.
هم عملوا مع المرزوقي ما عمله السبسي مع الشاهد.
لكنهم لم يسموا النهضة لأنهم ما زالوا يؤمنون ببعض خطة المرزوقي أعني التمييز بين “شعب النهضة” وقياداتها لعلمهم أنهم لا قاعدة لهم وأنهم ربما سيجلبون معهم الكثير من هذا الشعب في انضمامهم للحلف المثلث المتوقع والذي يجعل المرزوقي والشاهد منبوذين اقليميا ودوليا لصلتهما بالنهضة.
وبذلك فما يحلم به الباجي للثأر هو الخطة “ب” التي ستكون أداة الصدام فيها الاتحاد والجبهة والتيار الديموقراطي وهو ما يقتضي التخلص من المرزوقي وابن جعفر وربما حمة الهمامي.
أما الشابي فقد انتهى أمره لأن الدائرة الضيقة حول الشاهد والشاهد نفسه هم من بقايا حزبه الذي لم يعد له وجود.
ولا أعتقد أن الباجي له أدنى وهم حول إمكانية أن تكون الخطة “ب” بقيادة ابنه.
لذلك فرايي أنه سيبحث عن وريث يعده للانتخابات التي وعد بعدم تأجيلها وسيظهره قريبا كـ”دوفان” أو وريث يقود هذا المثلث.
وينبغي أن يرضي الثالوث.
وسيختار من يمكن أن يعتبر “أنظف” واحد من سياسي النظام السابق.
وإذا صح هذا التوقع فلا أعتقد أن حكومة الشاهد ستعمر طويلا.
ذلك أن أسقاطها لن يكون بالطرق الدستورية العادية بل باستعمال الاتحاد. وفي ذلك استيحاء من خطط بورقيبة: فهذه خطته التي نجح بها مرتين في افتكاك السلطة من الحزب القديم بـ”العامة” ضد النخبة التقليدية وبـ”عاشور” ضد ابن يوسف.
والباجي سيجمع بين بقايا الأحزاب الثلاثة التي ادعت المشاركة في الثورة (حزب المرزوقي وحزب ابن جعر وحزب الشابي) ثم بقايا اليسار والقوميين أي أحزاب الجبهة كأحزاب وكمخترقين للاتحاد ضد الاسلام السياسي الذي يمكن بيسر أن يضم إليه الشاهد ومن معه ممن أغراهم الحكم لكن قلبهم عليه ممكن.
كلام المنسحبين من حزب المرزوقي على “قطر وتركيا” رمزين للانحياز النهضوي يصب في هذا الاتجاه وهو من ثم ترشح صريح للانضمام إلى هذه الخطة “ب” في استراتيجية تكوين المثلث والاقناع بأن الشاهد بيدق نهضاوي ما يجعل “حزب فرنسا” له دور لأن ذهاب الشاهد إلى الصين لا يرضيه.
لا أزعم أن هذه الاستراتيجية حقيقة ثابتة.
لكن ما يكاد يثبت أنها هي الخطة “ب” التي اعتقد أنها علة ما قاله الباجي البارحة أمران:
الأول الاعلان عن القطيعة مع التوافق
والثاني الإعلان عن عدم تأخير الانتخابات.
فلا يمكن للباجي أن يؤكد هذين الامرين لو لم يكن له خطة لقلب الموازين.
وما كان ليقول ذلك بكامل الثقة لو لم يكن له ضوء أخطر من “المسؤول الكبير”.
والمسؤول الكبير معلوم من هو في الخارج ومن يمثله في الداخل.
لكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه. فقد تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.
والرياح في السياسة ليست طبيعية بل هي إنسانية:
لا بد من استراتيجية مضادة.
والاستراتيجية المضادة لا ينبغي أن تقع في خطأين قاتلين:
1. اطمئنان الاسلاميين للقبول بهم بيسر من المسؤول الكبير
2. الاستهانة بأوراق الخصم داخليا وخارجيا.
فالخارجية هي ما يجري في الأقليم وما ورائه من استراتيجيات دولية.
والداخلية دور الذراعين (إيران وإسرائيل) وانظمة الثورة المضادة.
وقد سبق فحذرت من البلديات.
وسبق وحذرت من الاستعجال في الاستعداد للانتخابات المقبلة وخاصة من الطموح للمشاركة في الرئاسيات والكلام على الترشح لها بدلا من البحث على ترشيح من يحوز على ما يشبه الاجماع الوطني الذي يحد من الوصل بالنكوص إلى قضايا الهوية والمرجعيات المتنافية.
وقبل أن يتكلم الباجي عن نهاية التوافق أشرت إلى نهايته منذ أن أصبحت الأزمة منحصرة في البند الأخير من حوار قرطاج الثاني واعتبار النهضة مسوؤلة عنها.
فذلك كان الهدف منه تحقيق “الترنسفار” الذي يجعل “الشاهد” الذي خرج عن طوع الباجي بكونه يفعل بسبب كونه دمية نهضوية.
ولا بد من الاعتراف بأن مرض التصريحات المجانية جعل النهضة تتحول إلى طرف في صراع النداء بدعوى الكلام باسم المصلحة الوطنية وهو عندي خطأ استراتيجي لأن المصلحة الوطنية كانت تقتضي مواصلة المهادنة التي قطعتها الانتخابات البلدية وعمقتها هذه التصريحات المجانية المتعلقة بانتخابات 19.
وختاما فإني شبه مقتنع بأن من نصحوا النهضة بهذا الموقف -وطمأن قياداتها بأن القوى الغربية قبلت بها وبالاسلام في تونس- قد دفعوها دفعا إلى تحقيق شروط نجاح الخطة “ب” التي سيلجأ إليها الثالوث الذي وصفت:
يكفي أن تتكون جبهة إنقاذ بعنوان مقاومة “أخونة” تونس حتى ينجح الباجي فيقلب الموازين.
وقد اقترحت -لما أعلنت بأن التوافق انتهى بسبب الأزمة- أن تنفتح النهضة على الدساترة وما بقي من حزبي الترويكا لأني كنت أتوقع أن الباجي سيسارع إلى الخطة “ب” والتي لا يوجد سواها أي جمع الأحزاب التي تدعي الـ”الديموقراطية” والتنوير والتحديث ضد من يتهمون باللاديموقراطية والظلامية والتأصيل.
طبعا هم يعلمون أن هذه الدعوى كذب في كذب. لأنه لا يوجد ديموقراطي يدعو للإنقلاب العسكري أو يحالف بشار وحفتر وأميري الخليج اللذين يقودان الثورة المضادة ويعمل بأوامر من “المسؤول الكبير”.
لكن الأمر هو كذلك والتعامل السياسي مع هذه الوضعية هو مأزق الاقليم كله وليس تونس وحدها.
فلا شيء في المفهوم ولا في التاريخ يثبت أن العلماني تنويري وتقدمي وديموقراطي بذاته أو يثبت أن الإسلامي ظلامي ورجعي ومستبد بذاته.
كلا القولين خرافة وبروباغندا لأن من حكم الأقليم منذ بعد ما يسمى بـ”الاستقلال” كلهم يدعون ما يزعمه أصحاب هذه الدعوى الذي هم عملاؤهم وورثتهم ولم نر غير الاستبداد والفساد والتبعية البنيوية لمافيات الغرب.
ولم أقترح ذلك من باب اسداء النصح لأني أعلم ألا أحد ينتصح إلا بعد فوات الفوت.
لكن كلامي كان من باب البحث في شروط إمكان تجنب ما يسمى عند من يتصور السياسة فن الممكن دون أن يصل ذلك بفن التوقع.
فالفصل بين الفنين هو الذي يجعل السياسة تتحول إلى إكراهات بلا بدائل.
وطبعا فمثل هذا الكلام يعتبر من النظر الذي يوصف تحقيرا ونبزا بالـ”تفلفس” بمعنى أن من يهملون ضرورة التوقع يعتبرون من يدخله في حسابه قابلا لأن يوصف بكونه من نوع “المتفرج فارس”.
في الحقيقة المباشر الذي لا يتوقع من جنس لاعب الشطرنج الذي لا يرى إلا حركة واحدة في الرقعة.
وكل ما يجري بعد الحركة الواحدة يصبح إكراهات سياسية كما في الشطرنج فيغلب عليه الارتجال والرماية في عماية.
ذلك أن التكتيك لا معنى له من دون استراتيجية.
فلا يمكن في بلد وأقليم سيطرت عليهما المافيات المحلية والأقليمية والدولية في كل المجالات التسرع.
فهو دليل عدم الحذر والحكمة.