توفيق الزايري
كان الشهر نوفمبر من سنة 1993 وكان المكان غرفة مرضى الأعصاب لمساجين سجن المهدية
يقوم مدير السجن الهادي الزيتوني ككل مديري الوحدات السجنية التونسية بمناسبة الاحتفال بيوم السابع من نوفمبر بالطواف على الغرف واحدة بعد الأخرى لتلاوة بيان السابع على المساجين وتذكيرهم بفضل صانع التغيير على البلاد والعباد…
دخل المدير للغرفة فحياه المساجين فقال: أنتم تعلمون أن سيادة الرئيس زين العابدين ابن علي ابن تونس البار قد أنقذ البلاد وها هو يواصل المسيرة وقد أولى حقوق الإنسان المكانة التي تستحق… وأردت أن أذكركم بما ورد في الخطاب التاريخي لسيادة الرئيس. وانبرى يقرأ البيان على مسامعنا. ما إن إنتهى من قراءته حتى اهتزت القاعة بالتصفيق. ومن لا يصفق فإنه يصنف معارض متآمر وضد الدولة… وقبل أن يغادر المدير الغرفة توسل إليه وترجاه السجين “كرموسة” أن يبلغ سيادة الرئيس تحيات ودعم ومساندة مساجين غرفة الأعصاب له فرد المدير قائلا: وصل !!! فاهتزت القاعة بالتصفيق من جديد. (كيف لا نصفق وسلام مرضى الأعصاب بسجن المهدية سيصل لصانع التغيير في قصره عن طريق سجان؟؟!!).
كانت إدارة السجون قد صنفت مساجين حركة النهضة “مساجين انتماء” وكلمة انتماء تعني أن السجين الذي يصنف “انتماء” هو سجين حوكم بسبب انتمائه لحزب غير مرخص فيه. إلى الحد الذي أصبحت كلمة إنتماء تعني حركة النهضة.
والمعلوم لدى مساجين الحق العام أن جماعة الإنتماء يؤدون فريضة الصلاة ويحفظون القرآن ويصومون النوافل و… تزامن هذا مع إقدام نظام ابن علي على محاكمة مجموعة صغيرة لا يتجاوز عددها عشرة أنفار من حزب العمال الشيوعي التونسي poct فجيء بسجين منهم إلى غرفة الأعصاب وأعلمت إدارة السجن ناظر (كابران) الغرفة بأن هذا السجين هو “انتماء”.
ظل المساجين يراقبون الوافد “الانتماء” الجديد فلا هو صلى ولا قرأ القرآن… ولا هو يشبه بقية مساجين الانتماء المتعارف عليهم لدى مساجين الحق العام. فجاؤا يسألوني عن هذا “الانتماء” فوجدت صعوبة لإفهامهم وإقناعهم… فالراسخ في أذهانهم إنتماء/ نهضة / صلاة…
قال أحد المساجين ممن درسوا بالجامعة أنا أعرف الحزب الذي ينتمي له هذا السجين. إنهم لا يؤمنون بالله ولا بالأنبياء ولا بالكتب السماوية ولا بالحلال والحرام… ويمنعون الملكية الفردية وأطنب السجين يفسر ويوضح للمساجين الخلفية الفكرية للانتماء الجديد.
تحلق المساجين حول الطالب يسالون ويستوضحون… كان الطالب بسيطا متهورا متعنتا وغير مستوعب لحقيقة المساجين فانبرى يدافع عن قناعاته بكل قوة وشدة.
كان المشهد عجيبا غريبا. من جهة هنالك طالب يتحدث في قضايا الوجودية والتأميم والإشتراكية ومن جهة أخرى هنالك مساجين حق عام أصابتهم الدهشة والإستغراب مما سمعوا وتنقصهم الحجة والمحاججة.
قفز من فوق الأسرة سجين محكوم بثلاثة أشهر وخاطب الطالب قائلا: أنا أملك شاحنة OM40 وأقوم منذ الفجر لأحمل الرمل والحصى وأعاني المشقة وأنت تنام إلى حدود منتصف النهار ثم تريد أن تصبح شريكا ونتقاسم المرابيح ؟؟!! -لعنة الله عليكم-
كان السجين يهاجم الطالب بحماسة وكأني بهم سيؤممون له الشاحنة في لحظتها تلك.
قال السجين “شقلالة”: نحن ننتظر الفرج من الله ونطلب منه التخفيف عنا من محنتنا وحتى إن أخطأنا في حق الله فإنا نطمع أن يغفر لنا خطايانا وها هي إدارة السجن تأتينا بواحد يقول لنا: إن الله غير موجود ويطلب منا أن نريه الله أو نأتيه به…!!! وواصل كلامه قائلا: إن سكتنا عن هذا فلن نغادر السجن بل سيسقط الله على رؤوسنا سقف السجن.
وجدت نفسي في حيرة وورطة: هل أساند الطالب وأمكنه من حقه في الإيمان والكفر بناء على قوله تعالى: فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر: ؟؟ وأضع نفسي في عزلة داخل الغرفة تنضاف للعزلة الكبرى وأصادم المساجين وهم “الراي العام” ؟؟ أم أنحاز للمساجين الذين فوجؤوا بمواطن تونسي ينفي وجود الله ؟؟
علا الصراخ وساد الغرفة هرج ومرج. فتح أحد المساجين العاملين بالسجن باب الغرفة لإدخال الخبز للمساجين فأدخل كيسا مملوءة خبزا، أمسك “كرموسة” الكيس ووزع الخبز على المساجين لكنه أمسك “خبزة” الطالب وخاطبه قائلا: هذه نعمة ربي وأنت كافر به والله لا تذوق نعمة ربي” !!!
قال السجين “زهمولة” نقتسم خبزة الشيوعي جميعا إنها غنيمة “وزهمولة” هذا هو إسم على مسمى. كهل قصير القامة نحيل الجسم قليل القوة شديد الفقر رث الهندام يأكل ويلبس مما يتصدق به له المساجين،
تجمع المساجين من حول الطالب وطالبوه بمغادرة الغرفة حتى لا يأخذنا الله بعذاب من عنده.
بدأوا يدفعونه حتى أخرجوه. جاء أعوان السجن يتساءلون فأخبروهم بأن هذا الإنتماء لا يؤمن بالله فانهال عليه الأعوان ضربا وركلا ورفسا وأخذوه إلى جناح آخر.
رجع “كرموسة” للغرفة وقال: لا تعطوا لعم توفيق الزايري نصيبا من “خبزة قريش” إنه لم يساندنا ضد “الكفار”.
مرت السنوات تلوى السنوات وها أنا بمدخل نهج القصبة من جهة باب البحر خلال صائفة 2018 وها هي يد تمتد لتلامس كتفي التفت فإذا به “كرموسة” وقد فعلت به السنين والمحن ما فعلت. احتضنا بعضنا بقوة وصدق ودعوته لاحتساء فنجان قهوة بمقهى الدينار فاستجاب. استرجعنا بعض الذكريات وسألته عن بعض أصدقائي: شقلالة وزهمولة والسردوك…
وقبل أن نفترق سألت صديقي: هل أنت مع أم ضد تقرير لجنة الحقوق الفردية والحريات ؟؟ فوجدته خالي الذهن، فطرحت السؤال بطريقة أخرى: هل أنت مع جماعة بشرى أم لا؟؟
الآن فهم السؤال فدقق النظر في وجهي طويلا ثم تنهد وقال: بالله يا جماعة النهضة ما ترخوش بينا”… مع خالص تحياتي لبشرى ولجنة التسعة.