عز الدين عبد المولى
من شهادة بوراوي مخلوف
مرّ أمامي هذا الصباح فيديو فيه شهادة يدلي بها بوراوي مخلوف عن معاناته في سجون بن علي، فقمت بتفريغها لمن أراد أن يستزيد من شهادات المعذبين في أرض تونس:
الخصوصية التي تكتسيها تجربتي هي أنني امتنعت عن إجابة جماعة أمن الدولة على أي سؤال، فكان ذلك بمثابة التحدي بيننا. في آخر الأمر قالوا لي يا بوراوي ستأخذ أقسى حكم وستكون آخر من يعود إلى بيته. وهو ما تم بالفعل، فقد حكموا علي بالسجن مدى الحياة قضيت منها 18 عاما.
سأحدثكم قليلا عن بعض وسائل التعذيب التي كانوا يمارسونها علي. في البداية كانوا يستعملون معنا التعليق، وكانوا مستعجلين على الحصول على المعلومات التي نملكها. ولأنني كنت أرفض أن أجيبهم، فقد كانوا يتركونني معلقا لأيام وليس لساعات. انتقلوا بعد ذلك إلى وسائل أخرى منها ما يسمونه “عملية البانو”. كانوا يعلقون الواحد منا مقلوبا على رأسه ويوضع نصفه الأسفل داخل “البانو” حتى تمتلئ بطنه بالماء ثم يضربونه عليها حتى يخرج الماء ثم يعيدونه إلى نفس الوضع فتمتلئ بطنه بالماء مجددا وهكذا دواليك عدة مرات في اليوم. كانوا يوصلون الواحد منا إلى الموت عدة مرات في اليوم الواحد. كل ذلك وهم مستعجلون ويشعرون بالتحدي وهم لا يفهمون كيف لا أجيبهم على أسئلتهم. بعد ذلك، انتقلوا إلى استخدام وسيلة قلع الأظافر. اقتلعوا أظافري العشرة وبقيت عاجزا عن المشي لمدة عامين تقريبا. من طرق التعذيب الأخرى المعتمدة، كانوا يربطونني من أطرافي الأربعة ثم يضربونني على مختلف المواضع من جسمي إلى أن فقدت صوتي وظللت حوالي الشهر لا أستطيع الكلام.
في إحدى المرات طلب منهم وزير الداخلية عبد الله القلال أن يزودوه بمعلومات دقيقة مني. أدخلوني إلى غرفة فيها ما لا يقل عن أربعين عونا، وانهالوا علي بالضرب في نفس الوقت. الحمد لله وبفضل تثبيت منه، وبعد كل ذلك الضرب، أخذوا يلهثون وأنا مرمي أمامهم وهم يسألون من أي طينة خُلقت. كان بن علي، حسب ما بلغني من بعض الأعوان، كلّما سألهم هل تكلم بوراوي مخلوف أجابوه بالنفي فيسبّهم. بعد ذلك بدأوا يصورونني أثناء التعذيب ثم يرسلون له تلك الصور دليلا على أنهم أوصلوني إلى “تلك الحالة”. إلى أن فقد بعضهم الأمل في أن يؤتي التعذيب أكله فكانوا يتوسلون إلي أن أعطيهم ولو قليلا من العلومات حتى يخف عليهم الضغط “من فوق”. كانوا يريدون أية معلومة سواء أكانت صحيحة أم خاطئة. المهم في كل هذا أن هناك إخوة استشهدوا بين أيدينا بسبب التعذيب. وصلت بنا الحال في بعض الأحيان أن يبلغ عددنا الثلاثين في الغرفة الواحدة ولا يستطيع أي منا أن يصلي قاعدا، الجميع يصلون ممدّدين. مرت بنا فترة حرجة جدا وهي الفترة التي أرادوا أن يفبركوا فيها قصة برّاكة الساحل. كانوا يخرجوننا بالتناوب ويعيدون كل واحد منا محمولا في “زاورة”. في الأخير نقلوني معصوب العينين إلى بيت في ضيعة وجدت فيها الدكتور الصادق شورو. كان هو في غرفة وأنا في غرفة أخرى، وكانوا يراقبوننا مسلحين على مدار الساعة. كانوا يعذبونني على مسمع من الدكتور الصادق، يعذبونني للضغط عليه. لم يكن لديهم مقدار غرام من الإنسانية، لا أحد منهم كان يشفق علينا، ولا أحد يقول إن لدينا عائلات وأطفالا صغارا وزوجات وإخوة. كنت أشعر أن الحيوان أرحم منهم، فلديهم درجة من الغل لم أرها في حياتي.
أريد أن أسوق ملاحظة أخرى، والحق يقال، فقد كانت معاملة السجين في عهد بورقيبة تختلف بين مرحلتين، كان الأمر ينتهي بعد انتقال السجين من الداخلية إلى السجن. أما في عهد بن علي فقد استشهد إخوة تحت التعذيب في السجن، وأنا على سبيل المثال قضيت 18 عاما منهم 15 عاما تقريبا في العزلة. من وسائل التعذيب في سجن الناظور، ربطوني على سرير من أطرافي الأربعة لمدة ثمانية أيام كاملة. فالزنزانات هناك مجهزة بسلاسل يّشد بها السجين إلى سريره لعدة أيام دون أن يّفك وثاقه. كان السجين يمضي تلك الفترة مسلسلا ويُجبر على قضاء حاجته في تلك الوضعية، أمام مساجين آخرين بعضهم سياسيون وبعضهم من مساجين الحق العام. في سنة 2003، أي بعد حوالي 12 عاما نقلونا إلى سجن المرناقية، ووضعوا كل واحد منا في زنزانة انفرادية طولها متران وعرضها متر ونصف المتر. منعوا عنا الكتب والصحف والتلفزيون ووضعوا فرقة خاصة لمراقبتنا، ولم يكن يسمح لنا بالخروج من الزنازين لأكثر من تسع دقائق في اليوم. لتغيير ذلك الوضع اضطررنا للإضراب عن الطعام لمدة 49 يوما، خلّف للبعض أضرارا متفاوتة. منا من أصيب بنزيف، ومنا من انفلقت معدته، والبعض الآخر لازال يعاني إلى يومنا هذا بسبب تلك الأمراض.
في السجن، كنا محرومين من جميع الحقوق التي يتمتع بها مساجين الحق العام. كانوا يباعدون بيننا وبين عائلاتنا، فالعائلة التي تسكن في المنستير مثلا ينقلون ابنها إلى سجن الناظور أو القصرين. ولزيادة معاناة العائلات، كانت القفة تأتينا في يوم والزيارة في يوم آخر، وكنا ممنوعين حتى من حقنا في “البونوات” لاقتناء بعض الأغراض من داخل السجن، وبالطبع كنا ممنوعين من التواصل فيما بيننا. لقد نكّلوا بنا وبعائلاتنا، وهنا ينبغي أن أحيي كل أخت من أخواتنا سواء أكانت أُمّا أم أختا أم زوجة أم بنتا، لأنهن كن سندنا الحقيقي. فالإنسان داخل السجن يكون في حاجة إلى سند كبير، وقد كنّ ذلك السند.
https://www.youtube.com/watch?v=7qsIUES-p9g