الثلاثاء 17 يونيو 2025
بشير العبيدي
بشير العبيدي

البندقية والبيادق

بشير العبيدي
#دموع_القلم
لطالما أخّرتُ زيارتي لمدينة البندقيّة الإيطاليّة، متخفّيا وراء تعلّة انعدام الوقت. والحقيقة أنّ السّبب يعود جلّه لانعدام الرّغبة. ذلك لأنّني أدرك يقينا، أنّ كلّ بهجة أعيش طيفها في مدن هذه الأرض، يعذّبني ألا أرى قومي وناسي وكلّ سكّان كوكبنا الأزرق ينعمون بمثلها. أليس فلاسفة كلّ الأزمنة قد تواطؤوا على أنّ السعادة لا تكون إلا بالمشاركة والمنادمة؟!
وعلى الرغم من خوف البندقية المكتوم من الغرق في الماء بفعل ارتفاع درجات حرارة الأرض، فهي الآن من بين أكثر مدن الأرض اكتظاظا بالزائرين، وهي من بين تلك المدن التي إن ذهب كاتب يلتمس محمدة وصفها، ربما سقط في مذمّة استنقاص قدرها، فكم من جمال هان بوصف قاصر عن الغاية، وتفصيل لا يكسي الموصوف قدوداً قشيبة تبرز قدّه.
البندقية مدينة أرجلها نابتة في الماء، وذاكرتها في الكنائس والقصور التي تناطح بصوامعها السماء. وإنّ الذي يقدم إلى البندقية زائرا، لا بدّ أن تعمّده هذه المدينة في مجاريها كما يعمّد القساوسة المؤمنين في الأنهار المقدّسة. ذلك أنه لا يكاد الزّائر يطأ اليابسة بعد خروجه من المراكب التي تجوب قنوات المدينة ذهابا وجيئة، حتّى ينتابه ذلك الإحساس الغريب بأن أمرا ما قد تملّكه. وكيف لا يشعر إنسان بذلك، وهو يرى ويحسّ بنفسه وقد تحوّل إلى جزء جميل من لوحة زيتيّة عظيمة، حيّة، مبهجة، كلّ شيء فيها يتحرّك عدا عيون المشاهد المصاب بالبهتة والذهول أمام حسن البندقيّة الأخاذ.
البندقية هي خلاصة تعانق مائة وثمانية عشر جزيرة، كانت على مرّ التاريخ تسبح في مستنقعات خصبة، تسقيها جداول الماء العذب المشبع بالطمي الخصب المنسكب من الأعالي الجبلية ذات الطرابيش الثلجية. سكنها النّاس وتنازعوا من أجلها وغزاها الغزاة وتعاقبت عليها رحى الحضارات على مرّ الدّهور، فخلّفت الخلوف في هذه المدينة التي تشهد للإنسان بروعة الإنجاز وبهجة الإتقان في كل شيء تراه العين من مسالك للعبور أو مباني للقصور أو حدائق للزهور أو مباهج للسرور أو معابد للحبور.
البندقية أعجوبة الزّائرين ومنظر الرسامين ومبسم الفرحين. ومن أعجب ما تراه العين تلك الجسور الممدودة بين الجزر وفوق دروب الماء، كأنّها أيد تمتدّ بمنطق التعاون والتآزر والتناصر للضفاف الأخرى تحتضنها، ومنظر الغندول الطويل يحرّكه صاحبه بالمجداف، وهو يمر من تحت الجسور وبين المباني العالية، في ظلّ ظليل حينا، وحينا في حرقة الشمس اللاذعة. ومن أعجب ما تراه العين تلك المراكب البحرية واليخوت من جميع الأشكال والألوان والأحجام تجوب المسالك المائية العريضة في حركة دؤوبة ليلا نهارا. ومن أعجب ما تراه العين تلك المباني العظيمة المنسقة تنسيقا هندسيا بديعا، تتقدمها مباني الكنائس والقصور والمسارح والمتاحف والجامعات، مبانٍ تتحدّث عن أمجادٍ خالدة وأيام تالدة ومنجزات طارفة. ومن أعجب ما تراه العين وتسمعه الأذن ويطرب له القلب، اعتزاز أهل البندقية بلهجتهم التي اتخذتها إيطاليا لغة رسمية، فتسمعهم في الشوارع يتراطنون بها في فخر واعتزاز، ولا يجيبونك إلا بلغتهم ولا يكتبون غيرها في جدرانهم أبدا، ويضيّقون دائرة استعمال لغات أجنبية، إلى درجة تثير الإعجاب، لعلمهم أنّ قوّة التمكين الحضاري تبدأ من اللغة وتنتهي إليها، وأمارة الوهن الحضاري تبدأ من اللغة وتنتهي إليها.
“تْشِنْكانْتا تْشِنْكوا” ! هكذا أجابني النّادل، بكل فخر واعتزاز بإيطاليته العريقة، وهو يردّ عن سؤالي عن ثمن قهوة وكأس عصير استهلكته في مقهى ! نعم ! الجواب هو : “تْشِنْكانْتا تْشِنْكوا” عن سؤالي بالانقليزي ! لكأنّه جذبني من أذني مؤدّبا وهو يقول لي : تكلّم إيطالي ! تبّا لك ! ولتذهب الإنقليزية تبيع اللّفت في أحواز بومباي !
ولقد طبعتْ مدينة البندقية روحها في الزّجاج، فلا يكاد النّاظر يغيّر نظره من محلّ لبيع منتجات بلّورية من تلاوين الزجاج إلى آخر، حتى ينسى ما كان قد سلب لبّه قبل لحظة، من كؤوس وأوانٍ وحليّ وتماثيل وتصاوير وأشكال إبداعية، يحار المتفرّج كيف تيسّر للفنّانين تخيّلها، وكيف تمكّن الصنّاع من تسوية مستقيماتها وتعويج منحنياتها ونحت أحافيرها وتمليس نتوءاتها. كما أنّ صناعة الملابس الجاهزة وصناعة الأحذية والجلديات بلغت شأنا عظيما حتى قال قائلهم : إدا لبست حذاء إيطاليا، فإنك قد لا تلبس حذاء يضاهيه قطّ !
كما برع أهل البندقية في تصنيع الأقنعة ذات الأشكال والألوان الزاهية. إنها أقنعة نسائية ورجالية، تعود تقاليدها لأزمان غابرة، حين كان الناس يختلط حابلهم بنابلهم في مهرجانات جامعة، أو في المحافل والمسارح والملاهي، وهي مناسبات كان لا يتخلّف عنها أحد من جميع طبقات الشعب، حتى رجال الدين والراهبات المتبتلات، فاتخذ الناس الأقنعة التي تساعد الجميع على خفر المروءة لبعض النهار، وتذوّق حلاوة الباطل في بعض الليل…
ولا أدري أيّ شأنيْ أهل البندقية أَخْبَر عن حقيقتهم، يوم سفورهم أم يوم تخفّيهم بالأقنعة! ولا حاجة أن نعرّج على طعام أهل البندقية وإتقانهم فنّ المائدة، فقد بلغوا الغاية، وأكتفي بالتنويه لما أعجبني عندهم مما هو فوق منطقة البطون والفروج.
ولقد أرهقني التجوال في دروب البندقية هذا الْيَوْم، وأدركتني صلاة العصر، فقصدتُ كنيسة عظيمة هي كنيسة القديسة مريم النّاصريّة، فوجدتُ عشرات من الناس يقابلهم قسّ وهم يقيمون قدّاسا، فجلست في ناحية منعزلة، وصليت الظهر والعصر جمعا على ملّة النبيّ محمد، ثم جلستُ أتأمّل في كنف هدوء الكنيسة وظلمتها الموحشة، وأقول في نفسي : هل نحن – معشر المسلمين – نعجز أن تكون لنا بندقية كهذه نزورها في مثل هذا الفصل ونكحّل بجمالها عيوننا مثلما نفعل مع بندقية إيطاليا ؟!
هل يمكننا مدّ الجسور الكثيرة بين مددنا المسلمة الثريّة بتجاربها وتراثها كهذه الجسور التي مدّتها البندقية الإيطالية بين جزرها المائة والثمانية عشر!؟ هل يمكننا أن نتآلف مع تاريخنا وقيمنا وتراثنا وحداثتنا ومستقبلنا ومصالحنا الحيوية … كما تصالحت البندقية خلال الثورة الإيطالية التي جرت أحداثها في منتصف القرن التاسع عشر ووحّدت مناطق إيطاليا تحت قيادة القائد الفذّ غاريبالدي؟
خرجتُ من كنيسة السيدة مريم العذراء وأنا أقول في نفسي، وسط زحام شديد من البشر من كلّ الملل واللغات والنحل : نعم ! يمكننا أن نصنع بندقية … بل بنادق ! يمكننا صنع بندقية من جميع مدننا المترامية على القارات الخمس ! يمكننا ذلك بكل سهولة. البحر مجرانا، والأرض مبنانا، والسماء ظلّنا ومنتهانا!
يمكننا بالتأكيد صناعة البندقية الأروع في هذا العالم. يمكننا صناعة أقوى البنادق حتّى ! نعم، يمكننا صناعة أقوى البنادق بشرط ألا يجاورنا فيها البيادق… أولئك الذين يشبهون في ضعفهم بيادق الشطرنج. إنهم بيادق السياسة وبيادق الدين وبيادق الثقافة وبيادق التعليم وبيادق الإعلام، إنها بيادق منبتة عن رعاية مصالح شعوبها تؤمر فتطيع، وتحمي مصالح آمريها قبل كلّ شيء!
لقد قلّبت صفحات وصفحات من تاريخ الإنسانية، ولم أقرأ قطّ أن البيادق تصنع البنادق…
كشْ مات…
✍? #بشير_العبيدي | ذو القعدة 1439 | كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تَصْنَعُ أمَلًا |


اكتشاف المزيد من تدوينات

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً

بشير العبيدي

لماذا أنجب علماء الدين أعتى العلمانيين في تونس ؟!

بشير العبيدي‎  في المجتمعات البشرية، توجد ظاهرة معروفة عند علماء الاجتماع تسمى تغيير المنوال الاجتماعي، …

بشير العبيدي

بشيرة التونسية… وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ…

بشير العبيدي‎  أتممتُ دراستي الابتدائية والثانوية والمرحلة الجامعية الأولى في تونس. بيد أنني لا أذكر …

اترك تعليق