مبادرة الرئيس تخل بالنظامين القانوني والسياسي لغفلة ؟ أم لتواطؤ ؟
أبو يعرب المرزوقي
لو لم يكن رئيس الدولة دارسا للقانون -في عصر كان تعلمه في فرنسا ليس هينا- لما تجرأت فاعتبرته قد خان الأمانة القانونية والخلقية.
فأما خيانة الأمانة القانونية، فلا تحتاج للتدليل لأن مجرد قفزه على البند الأول كاف، فضلا عن توطئته التي اعتبرها الدستور أحد عناصره التشريعية.
وكان يمكن أن نحسن الظن فنتصور أن ذلك مجرد غفلة.
لكن محاولة تبرير المشروع بتحقيق التناسق بين الدستور والقوانين انطلاقا من مبدأ المساواة يثبت أن ذلك كان بقصد لتجنب الإعتراض الأساسي على هذا القصد سيء القصد، وهو أن تناسق فصول الدستور فيما بينها مقدم على التناسق بينه وبين القوانين.
ورئيس الدولة ليس له سلطة البحث في دستورية القوانين.
فهذا من مهام المحكمة الدستورية التي لم تتكون بعد.
وحتى هذه فهي ليست مخولة من ذاتها للبحث فيها ما لم يأتها طلب من ثلاث سلط مضاعفة مخولة:
• الحكم بفرعيه تشريعا وتنفيذا.
• والقضاء بفرعيه القاضي والمحامي.
• والمجتمع بفرعيه الحزبي والمدني.
وبهذا المعنى، فالرئيس فيما يعود إليه من الحكم يمكنه أن يطلب من المحكمة الدستورية القضاء في دستورية أحد القوانين، لكنه ليس من حقه أن يقضي في الدستورية من عدمها.
وكل ذلك يفهمه دون شك لأنه مختص في القانون وتعلمه صغيرا، ومن عادة المسنين ألا ينسوا ما تعلموه صغارا.
ومع ذلك، فليس هذا تعليلي لتهمة خيانة الأمانة الدستورية، بل هو أعمق من ذلك بكثير.
فلا شك أن الرئيس، ومعه خاصة “الخبراء” الذين اختارهم، وأقصد المختصين منهم في القانون لأن من سواهم “بقر الله في زرع الله” من هذا الوجه يعلمون مفهوم النظام العام القانوني. وهو أهم أسس النظام القانوني.
فالنظام القانوني العام هو نظام التوازنات المنسقة بين المستويات القانونية الخمسة التي تحافظ على نظام عام آخر أهم حتى من النظام القانوني العام، هو النظام العام بالمعنى السياسي والأمني بمعناه المادي والرمزي في الجماعة.
فالإخلال بهذا الثاني يمكن أن يكون مصدر فتنة، فيؤدي إلى حرب أهلية.
فما هي المستويات الخمسة التي ينبغي أن يحصل بينها توازنات؟
هي جوهر ما تبحثه المجالس التأسيسية موضوعا لما تتوصل إليه من توافقات عندما تكون الشعوب التي تصوغه حرة كما حصل في البلدان التي عاشت ثورات، بدءا بالولايات المتحدة، ثم فرنسا، ثم تونس في ثورة الشباب بجنسيه.
وهذه المستويات الخمسة هي:
• المرجعية (موضوع الخلاف والتوافق الأول).
• القوى السياسية وطبيعة دورها (موضوع الخلاف الثاني والتوافق الثاني).
• سلطات الحكم والمعارضة (موضوع الخلاف والتوافق الثالث).
• وظائف الدولة الراعية والحامية لحقوق الموطنين والجماعة في الداخل والخارج (موضوع الخلاف والتوافق الرابع).
• والناقل من 1و2 إلى 3و4 نص الدستور نفسه. (الخلاف الجامع والتوافق النهائي).
وحتى يكون الأمر واضحا للرئيس الذي أظنه تعلم القانون كما يجب، لأنه تعلمه في عصر لم تكن الجامعات فيه تقودها النقابات الجاهلة وقياداتها الفوضوية، فلأضرب مثال العلاقة بين الفصل الأول والفصل الثاني.
فهو توهم الحسم لتجنب ما يبدو مناقضا لمبدأ الحرية بالقفز على الأول واعتماد الثاني.
وقد يكون صدق الفتوى الغبية القائلة إن الفصل الأول تعريفي وليس تشريعيا.
لكأن أحدا قال في منظومة رياضية متناسقة أن الاستدلال الموالي في القضايا يمكن أن يكون مشرعا منطقيا من دون أن يكون خاضعا لتشريع التعريفات في النسق الرياضي.
ومعنى ذلك أن التعريفي أقوى أثرا لأنه تشريع للتشريع.
فكيف يتضح ذلك؟
عندما يفهم الرئيس وخبراؤه الأميون حقا في القانون، فضلا عن فلسفته، أن التناسق في الدستور ليس بين فصل وفصل. فالفصول قد تبدو متناقضة.
التناسق هو بين ما يؤسس الفصلين في التوازن بين تأويلات المرجعية التي تستند إليها القوى السياسية التي صاغت الدستور ممثلة لإرادة الجماعة.
وحتى أزيد الأمر وضوحا:
قبلت القوى السياسية قراءتين للمرجعية المشتركة:
أي قراءة ذات ميل إسلامي
وقراءة ذات ميل علماني
وقبلت بتنازلات متبادلة لا تغلب الإسلامي على العلماني ولا العلماني على الإسلامي، بحيث المدني فيه الإسلامي والإسلامي فيه المدني، في حالة الفصلين الأولين.
والنتيجة التي تؤدي إليها التوازنات ليس في صوغ الدستور وحده (حدا أوسطا بين المرجعية والقوى السياسية قبله، والحكم ووظائف الدولة التي يديرها الحكم بالفعل، والمعارضة بالقوة كقوة سياسية ناقدة ومراقبة بعده) بل في تعايش الجماعة السلمي، هي العلاقة بين النظامين العامين القانوني والسياسي.
وهنا يأتي مفهوم خيانة المؤتمن الخلقي:
فوظيفة رئيس الدولة هي قبل كل شيء، وبالنص الدستوري في النظام التونسي القديم قبل الثورة والجديد بعدها، هو الحرص على حفظ النظام القانوني بتوسط الرقابة الدستورية التي يمكن أن يدعوها لذلك (المحكمة عند إيجادها) وحفظ النظام السياسي بالرقابة السياسية.
فلا يمكن أن يكون خالي الذهن عما يمكن أن ينتج عن هذه الفتنة إلا إذا كان من غرر به قاصدا الفتنة، لأن فيها ما قد يكون مبررا لما يخططون له من إنقلاب بدعوى منع الفتنة التي قد تحدث عن تمرير قانون أكثر من 97 في المائة من التونسيين يرفضونه.
بعد الثورة لن يسمح أحد للأقلية الدخيلة فرض أهواءها.
وخيانة المؤتمن الخلقية تكمن في أحد أمرين:
إما عدم الوعي بما قد ينتج عن مثل هذه المبادرة من إخلال بالنظام العام السياسي، وهذه طامة.
أو الوعي بذلك والإقدام عليه بمشاركة في مؤامرة هدفها تبرير الإنقلاب على مشروع الديمقراطية الهش بدعوى التصدي لما سيترتب عليه من فوضى.
وعندئذ يكون الرئيس قد خان وظيفته في حماية أمن الشعب والبلاد بسماحه لفتنة كان هو المبادر إليها إما لغفلة عما وصفت، وليس له عذر في ذلك لأنه يفهم في القانون وله خبرة سياسية تمكنه من فهم الفرق بين المناخين الذي كان قبل الثورة والذي جد بعدها، أو لمتواطئ مع الإنقلابيين على الديمقراطية.
ومرة أخرى فلست منتسبا إلى أي حزب.
ولو حاول أحد وصف موقفي في هذه القضية بتجاوز علاجها العلمي بمنظور فلسفة القانون والسياسة ليصفه سياسيا، لكان من جوهر البورقيبية لأن بورقيبة كما بينت سالفا هو الذي صاغ أساس التوازنات بين مستويات القانون الخمسة التي ذكرت في الفصل الاول من الدستور.