مقالات

تقرير فاقد للمصداقية العلمية والأخلاقية

مصدق الجليدي
ملاحظتان أساسيتان على تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة
يشتمل تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة الذي أذن بصياغته رئيس الدولة الباجي قائد السبسي على 233 صفحة.
ويتطلب تقييمه تقييما شاملا متسعا من الوقت والاطلاع والفهم والعلم القانوني والشرعي والاجتماعي.
سأكتفي في هذه العجالة بملاحظتين: واحدة منهجية شكلية وأخرى منهجية مضمونية.
أما الأولى فتخص زعم التقرير اعتماده التشاركية طريقة عمل في إنتاج هذا النص الخلافي الكبير. وأما الثانية فتخص معنى فلسفيا قرآنيا أساسيا انطلق منه التقرير وهو معنى الإستخلاف في الأرض.
1. الادعاء الباطل بالمنهج التشاركي:
زعم أصحاب هذا التقرير أنهم اعتمدوا منهجا تشاركيا في إنتاجه، والحال أن اللجنة المكلفة بذلك لم تشتمل ولا على عضو واحد من المجلس الإسلامي الأعلى ولا من أساتذة جامعة الزيتونة ولا من الجمعيات العلمية الشرعية، ولا من المفكرين الإسلاميين العقلانيين الكبار أمثال الدكتور حميدة النيفر، أو عبد الوهاب بوحديبة (صاحب كتاب “الجنسانية في الإسلام”، وكتاب “الإنسان في الإسلام”)، ولا حتى منجز أطروحة الدكتورا حول مفهوم الحرية لدى الشيخ الطاهر بن عاشور، الدكتور جمال دراويل. وفي المقابل اعتمدوا اعتمادا كليا أو شبه كلي على جمعيات علمانية عرفت بابتعادها الكامل عن الوسطية والإعتدال.
2. تحريف المعنى القرآني لمفهوم الاستخلاف في الأرض
جاء في تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة (1 جوان 2018) معنى جديدا غريبا وعجيبا لمفهوم الاستخلاف في الأرض الذي هو من المعاني الأساسية في فلسفة القرآن العمرانية، هذا المعنى يفتح الاستخلاف على ممكنين أخلاقيين متضاربين: الصلاح والفساد. أي كأن الله خلق الإنسان لغاية يتساوى فيها معنى الصلاح بمعنى الفساد. بينما الله سبحانه لا يريد إلا الصلاح والأصلح لعباده. قال التقرير: “تم طمس معنى أساسي في القرآن، ويتعلق بالخلافة… “وإذ قال ربك إني جاعل في الأرض خليفة”… والخليفة المقصود في هذا السياق هو الإنسان والذي بعد وجوده تحمل مسؤولية التصرّف في الكون الذي سبقه في الخلق، وهو حرّ في هذا التصرّف، بما في ذلك إفساده أو إصلاحه. وبدل الانطلاق من هذا المفهوم الشامل تم تحويل وجهة المصطلح…” (ص. 8).
فكأن التقرير يقول، إن الله تعالى قد خاطب الملائكة بقوله إن سيجعل في الأرض خليفة يصلح فيها أو يفسد بكل حرية. بينما الملائكة قالت له “أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء” فقال “إني أعلم ما لا تعلمون”. بهذه الطريقة يصبح الله عز وجلّ -وحاشاه وله المثل الأعلى- محجوجا أمام الملائكة، بكونه خلق خلقا في الأرض وسمح له بالفساد فيها. بينما هو ردّ على اعتراضهم بأنه له حكمة من خلق الإنسان لا يعلمها الملائكة، ومن المحال أن يكون بعض محتوى هذه الحكمة هو فسح المجال للإنسان حتى يفسد في الأرض.
هنا وقع التقرير، بحكم ضعف في تفكير لجنته، أو بعض أعضائها، أو بحكم تعجلهم النتيجة التي يريدون الوصول إليها، وهي تساوي الاحتمالات الوجودية والقيمية ونسف أي مرجعية أخلاقية إيجابية، في مغالطة منطقية لا تنطلي حتى على متوسطي الذكاء. فالحرية الأصلية التي هي للإنسان حرية وجودية متأصلة في صلب تكوينه الطبيعي، أي الاختيار الحر من متعدد، ولكن هذه الحرية ليست حرية قيمية، بل مجرد حرية طبيعية، ما قبل ثقافية، وما قبل معرفية، وما قبل أخلاقية ودينية ومدنية وحضارية. فما هي القيمة الأخلاقية والحضارية وما هي الإضافة القيمية من خلق إنسان يفسد في الأرض؟ فالإنسان الحر حقيقة، كما تقول بذلك الفلسفة النقدية الحديثة مع كانط هو الإنسان الذي ينطلق من مصادرة الحرية، أي قدرته على التحرر من الضرورات الطبيعية والغريزية والشهوات والأطماع والانفعالات، ليقوم بواجباته الأخلاقية على نحو عقلاني كوني، بحيث تصلح أن تكون مُسلّمته الأخلاقية الذاتية مسلمةَ الجميع، أي كلية وكونية. فأعضاء لجنة الحقوق الفردية والمساواة، إما أنهم ضعاف التكوين الفلسفي الحداثي، وغير مثقفين حقيقة حداثيا، أو أنهم سفسطائيون يرومون استبلاه واستحمار عموم الشعب والمواطنين.
لننظر ناحية علماء الدين الكبار الفطاحلة أمثال الشيخ بن عاشور، وناحية الفلاسفة المعاصرين الكبار المتبنين للمنهج العمراني الخلدوني، لنفهم فلسفة الاستخلاف العمرانية القرآنية:
يقول الشيخ العلامة الفهامة الطاهر ابن عاشور:
“فالخليفة آدم وخَلَفِيَّتُه قيامُه بتنفيذ مراد الله تعالى من تعمير الأرض بالإلهام أو بالوحي وتلقينُ ذريته مراد الله تعالى من هذا العالم الأرضي، ومما يشمله هذا التصرف تصرف آدم بسَن النظام لأهله وأهاليهم على حسب وفرة عددهم واتساع تصرفاتهم، فكانت الآية من هذا الوجه إيماءً إلى حاجة البشر إلى إقامة خليفة لتنفيذ الفصل بين الناس في منازعاتهم إذ لا يستقيم نظام يجمع البشر بدون ذلك” (الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير).
ويقول أبو يعرب المرزوقي في مقاله “قانون ابن خلدون في الانحطاط: في “التأله” أو في استبداد السياسي والمثقف”، الفصل الثاني:
“الإنسان لا يتحرر من العبودية بالصراع بين السادة والعبيد من أجل الاعتراف وخاصة بمنطق الجدل، بل بالوعي الاستخلافي: رئاسة الإنسان الطبيعية.
ورئاسة الإنسان الطبيعية هي عين الفطرة: أي إن الإنسان لا يمكن ألا يكون حرا.
والعبد يعي رئاسته، فيثور، وفي حالة العجز، تفسد فيه معاني الإنسانية.
وفساد معاني الإنسانية، كما بينا سابقا، موت بطيء لمن آل به نظام التربية (روحيا) ونظام الحكم (سياسيا) إلى أن يصبح عالة لا يحمي نفسه ولا يعيلها”.
لذا فإن هذا التقرير الذي يقوم على منهج مغالطي معرفيا وأخلاقيا غير جدير بالثقة. ومن رأينا ضرورة تجنب التسرع في اعتماده مرجعا لسن قوانين جديدة، حتى وإن كان بعضها صالحا، لأنها ستكون فاقدة لأي سند اجتماعي شعبي ولأي مصداقية علمية وأخلاقية.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock