هم كما كانوا… الإستقواء بالدولة على المجتمع
على خلاف المعتاد في صياغة القاعدة القانونية من أنها تأتي تعبيرا عن حاجة مجتمعية يقع تقنينها في نصوص قانونية تسهل تطبيقها في الواقع، تأتي مقترحات ماسمي بلجنة الحقوق والحريات التي تعبر عن رأي فئة معزولة عن واقع البلاد ومن خلال الإستقواء بإحدى مؤسسات الدولة (مؤسسة رئاسة الجمهورية) لاكتساب شرعية لم تحزها إنتخابيا.
الجميع مدرك أن الطروحات الواردة بتقرير تلك اللجنة ليست جديدة بل هي اجترار لشعارات بعض الجمعيات الحقوقية التي ترى في الحضارة الغربية أنموذجا لها على كل المستويات.
المنطق الدستوري يمنع هذا التوظيف باعتباره يخرج إحدى مؤسسات الدولة عن حيادها ويجعلها في خدمة طرف إيديولوجي وسياسي معين يستقوي على أغلبية المجتمع من خلال هذا التوظيف.
قد يجيني البعض أن رئيس الجمهورية يتيح له الدستور التقدم بمبادرات تشريعية للبرلمان وهذا الأخير بإمكانه التصويت لها أو ضدها، لكن الفهم المتناسق لوظيفة وصلاحيات رئيس الجمهورية في دستور 2014 لا تبرر له طرح مبادرات تشريعية تخرج به عن الحياد وتصب في خانة أقلية فكرية وايديولوجية معينة فهو مطلوب منه دستوريا أن يكون فوق الإنتماء الحزبي وهو ممثل للدولة الجامعة لكل التونسيين، لذلك فمبادراته التشريعية ينبغي أن تراعى فيها هذه المعايير وإلا عدت خرقا وانحرافا للدستور وتوظيفا وتوظيف فجا لمؤسسة مفترض فيها السهر على حماية الدستور وتقديم المبادرات التشريعية التي تعبر عن تلك المضامين.
أما لو كان برنامج رئيس الجمهورية الذي أنتخب على أساسه لذلك الموقع موضوعه مثلا تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة كما هو مطروح اليوم لما أثار الأمر حديثا عن توظيف لمؤسسة الرئاسة لحسم خلافات فكرية وايديولوجية، لأن الأمر عندها يكون قد حسم بالانتخاب من البداية، لكن ذلك لم يحصل والأمر طارئ الآن مما يجعل توظيف مؤسسة الرئاسة في مثل هكذا سجال فكري وايديولوجي مخالفا للدستور بل ومسطفا لجهة على حساب أخرى، لما لتلك المبادرة من أولوية في النظر أمام البرلمان.
ولأن أصحاب التقرير يعلمون أنهم أقلية فكرية وسياسية والمضامين التي يطرحونها مغتربة حضاريا فإنهم لم يعرضوا النقاط الواردة بالتقرير ضمن برنامجه الانتخابي وإنما تعمدوا الآن تقديمها من خلال مؤسسة رئاسة الجمهورية التي يفترض الدستور حيادها وتمثيليتها لكل التونسيين…
هم كما كانوا دائما في كل المحطات السياسية التي عاشتها تونس، كل ما يرغبون فيه يمرون إليه ليس بالحوار والإقناع واحترام وجهة نظر الأغلبية، وإنما عبر الاستقواء بمؤسسات الدولة وتوظيفها لغاياتهم وتطبيق أرائهم دون التوقف عند طبيعة النظام السياسي الحاكم أكان استبداديا أو ديمقراطيا.