أحمد الغيلوفي
فتنة داخل البيت الحُسيني
“..ثم ان الملك منصب شريف ملذوذ يشمل على جميع الخيرات الدنوية” ابن خلدون -المقدمة-
لكي نفهم الفتنة اليوسفية-الحافظية علينا أن نعود قليلا إلي الوراء: لم يكن نداء تونس غير ردّة فعل طبيعية قامت بها النواة الصلبة للحكم تجاه انتفاضة شعبية أتت من الدواخل وهددت منظومة الإمتيازات والمواقع والمصالح التي ورثها المركز. قبل الإستقلال كان “المركز” يتكون من “البلدية” أي أبناء البايات، غير أن بورقيبة استطاع أن يُدخل عنصرا ثانيا هو “السواحلية” إلى النواة الصلبة للسلطة. كانت الصراعات بين هذا التحالف من جهة وبين الدواخل المهمّشة ذات مضامين إجتماعية أو وطنية أهمها العدالة في توزيع الثروة أو الاستقلال الوطني، لاحظنا ذلك خلال ثورة على بن غذاهم أو الصراع اليوسفي البورقيبي أو إنتفاضة 17/14، غير أنه كلما انتصر المركز على الهوامش وصادف ذلك ضعفا في السلطة إلا وانفجرت الصراعات الداخلية في منظومة الحكم، وهي صراعات ليس لها من أفق غير “الخيرات الدنيوية”: السلطة والمواقع والثروة. إذا كان الجناح المُهيمن على السلطة هو الجناح الساحلي فإن الصراع سوف يتمركز داخله، وذلك ما حدث بين الصياح/وسيلة بن عمار/بن علي/الحبيب عمار، وإذا كان الجناح المهيمن هو “البلدية” فإننا سنشهد صراعا بين حافظ/الشاهد، أي فتنة “حسينية ثانية”: نفس الأسباب ونخشى أن يكون لها نفس النتائج.
قليل من التاريخ:
لم يكن للحسين بن علي باشا ولد ذكر من زوجاته فرأى أنه من الفطنة أن يكلف ابن أخيه الشاب علي بن محمد بمهمة “باي الامحال”، أي قيادة الجيش في غيابه، وذلك إعدادا له لتولي الخلافة. غير أن الأقدار شاءت غير ذلك: فقد قبض أحد القراصنة التابعين للباي على فتاة من “جنوة” في غاية الجمال وباعها للحسين بن علي. أنجبت “ماريا دوريا-منّانا” للباي أربعة أولاد، أكبرهم محمد. عندما بلغ هذا الأخير 15 سنة قرر والده أن يكون هو “باي الامحال”، وهي خطوة لا تحتمل التأويل في أنه تراجع في وعده لابن أخيه علي، حينها فرّ هذا الأخير إلي جبل وسلات، وانطلق الصراع المفتوح والمرير على السلطة، وهذا ما عُرِف بـ”الفتنة الحسينية-الباشية” وكانت طاحنة وشنيعة، خربت البلاد وأسالت أنهارا من الدماء وبنت جبالا من الأحقاد: انضمت كل من القيروان وسوسة والمنستير والمهدية والقلعة الكبرى وصفاقس وقرى من الساحل إلي الحسين بن علي وكذلك بنو رزق وأكثر عروش دريد وقبائل جلاص وأولاد عون وأولاد سعيد والهمامة. واصطفت مساكن وجمال والقلعة الصغرى وأكودة وزاوية سوسة وجبل وسلات وقبائل ماجر والفراشيش وأولاد عيار وأولاد سعيد في صف ابن أخيه.
ما يعنينا في كل هذا هو الخلاصة التالية: من يحسم الصراع في تونس يكون دوما عنصر خارجي، أي أن من ينتصر في تونس هو من يدعمه الخارج: فلولا تدخل داي الجزائر المساند لحسين باي وقبضه على علي باشا لما انتصر عمه، ولما اقضت سخرية الأقدار أن يموت داي الجزائر ويخلفه إبراهيم باشا أخرج السجين وجهّزه في 1735م بجيش جرار مكنه من الإنتصار على عمه. انتهت الفتنة بقطع يونس بن علي باشا رأس عم أبيه الحسين وتعليقه في القصبة لشهور.
الفتنة اليوسفية الحافظية
ينتمي هذين الشابين سويولوجيا إلي “البلدية”، غير أنهما لم يكونا شيئا مذكورا قبل 2014 حيث ظهر يوسف الشاهد راقصا ومتفوها بكلام ناب في حق أم الرئيس السابق وظهر حافظ متمسكا بتلابيب أبيه، المؤسس لنداء تونس، غير أنه يقول أنه متحصل على دبلوم الدراسات المعمقة في العلاقات الدولية ويرأس شركة صناعية. كما ليوسف الشاهد من مؤهلات غير أنه مهندس فلاحي، عمل منذ 2003 على تطوير الشراكة الفلاحية بين تونس والولايات المتحدة، وبعدها أستاذ في العلوم الفلاحية في فرنسا. أما سياسيا فليس له من زاد غير علاقة المصاهرة بين عمه والباجي قايد السبسي. كيف أصبح رئيسا للحكومة؟
عندما أطيح بالحبيب الصيد، لأسباب لا يزال المواطن التونسي يجهلها، جرّد إثنان من المغامرين سيفيهما وأعلنا الإستعداد لخلافته: ناجي جلول وسليم شاكر. كان الصراع قويا بين هذين الرجلين، غير أنه لم يخرج للعلن خشية أن يزيد في انقسام النداء المنقسم أصلا، إلي كتلة “ساحلية” تدعم جلول وكتلة “صفاقسية” تدعم سليم شاكر، كما أن الباجي لا يطمئن لطموحات كلا الرجلين، خاصة وأنه يريد أن يجعل من القصبة مكتبا مُلحقا بقرطاج ومنصة لانتخابات 2019. ترك الباجي الخلاف حول وراثة الصيد يتعفن حتى يتدخل هو في النهاية، فرغم أن الدستور يعطي 10 أيام فقط حتى يسمي رئيس الدولة خليفة لرئيس الحكومة المقال إلا أن الأمر دام من 30 جويلية حتى 26 أوت. لقد توسم الباجي خيرا في الشاهد بوصفه شابا مطيعا وقليل خبرة وربما لم يكن طموحا، كما راهن على علاقة القربى والمصاهرة. غير أن “الملك عقيم”، ذلك ما قاله يونس وهو يقطع رأس عمه الحسين باي.
كيف اندلع الصراع؟
في الحقيقة كان نداء تونس من أول نشأته قابلا في أي لحظة للانفجار، فليس النداء حزبا ذو مشروع وطني بقدر ما هو “تجمع” من أجل المحافظة على الغنيمة، والصراع حولها هو ما مزّقه إربا وشقوقا، وليست “الوطنية” إلا قناعا يختفي حوله الطامحون والمغامرون: فقد خرج محسن مرزوق بدافع الوطنية، وأقيل الصيد بدافع الوطنية، وبدافع الوطنية أراد حافظ إقالة الشاهد، وبدافع الوطنية يتمسك هذا الأخير بالسلطة.
بعد الإنتخابات كان متوقعا أن تفترق المصائر، كلُّ في سباق محموم نحو مآربه الخاصة:
• كان الباجي يريد تنحية الشاهد حتى لا يكون مرشحا للرئاسة، ومازلنا نتذكر كيف تحولت الرئاسة إلى “معارضة” تساند الإحتجاجات التي حدثت في جانفي، وكذلك البرود الذي أبدته تجاه “الحرب على الفساد”، ومحاصرة الشاهد في الإعلام الأمر الذي اضطره إلى استعمال الفايسبوك. كان مقررا أن تتولى سلمى الرقيق مكانه: سيدة مغمورة ومحدودة ولم تتحصل على مرتبة وزيرة السياحة إلا بفضل الأموال الطائلة التي أنفقتها على النداء، كما تربطها علاقة مصاهرة مع حافظ قائد السبسي، فهو متزوج من ريم الرقيق وله منها ولدان: الباجي وفريال. لا يجد الباجي أفضل من هذه السيدة لتعبيد الطريق أمام إبنه.
• وكان الاتحاد يريد رأس الشاهد أيضا: يتعلل الاتحاد برفضه “للإصلاحات الكبرى”، ويقول أنصار الشاهد بأن للاتحاد ملفا غليظا يخشى أن يستعمله ساكن القصبة في حملته الإنتخابية.
أما الشاهد فأمام عينيه الخارطة التالية:
– “كتلة حافظ” انقسمت على نفسها لشطرين: شق “ساحلي” يرفض إقالته، والشق الباقي مع الإقالة لكنه منقسم حول سلمى اللومي الرقيق.
– حركة النهضة مع بقائه طلبا للإستقرار حتى الإنتخابات الرئاسية.
– سفير فرنسا قال بأن الحكومة تعمل بجد وحققت نسب نمو مقبولة.
– باقي الإتحاد الأوروبي وصندوق النقد والسبع الكبار مع الشاهد لأنه مستسلم تماما لإملاءاتهم.
على الورق كما يقول أهل الكرة الشاهد أقوى من الباجي وابنه الآن، ومن المستبعد جدا أن تقع إقالته.
ما نتوقعه في الأشهر القادمة هو التالي: قبض الشاهد على حوت كبير تخلى عنه أصحابه وأصبح مهجورا. انضمام الكثير من الغاضبين على حافظ إلي الشاهد وخاصة من جهة الساحل. تعتيم إعلامي كبير على “الحرب على الفساد” مقابل ظهور إعلامي واسع لقيادات الإتحاد تشهيرا بالإصلاحات الكبرى. تقارب أكثر بين اليسار وشق حافظ والإتحاد. إعلاميا: سيتذكرون “الوطني” و”الوطنية”: إستقلال القرار الوطني والإقتصاد الوطني.. في إشارة إلى أن الشاهد والنهضة ينفذون إملاءات خارجية وهما لسان حال القوى “الإستعمارية”. أما رئاسيات 2019 فليس لشق حافظ من أمل غير الدفع مجددا بالباجي منافسا للشاهد، ومحاولة النفخ مجددا في الإستقطاب الإيديولوجي القديم.
خلاصة القول: ما حدث وما سوف نسمعه حتى 2019 أمر لا علاقة للوطن والوطنيه به. إنه صراع على السلطه داخل بقايا البايات وسوف ينقسم الوسط والشمال بين مناصر للباي ومناصر لابن أخيه.
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.