في أن مفهوم المصلحة ثورة
زهير إسماعيل
المصلحة كلمة موسومة بالسلب، وتكاد تتماهى مع الانتهازيّة والعجز عن الالتزام بالمبادئ والقيم. هذا في الفهم العامي والوعي الشائع الذي تكثر فيه نعوت للأشخاص من نوع “مصلحي”. والمقصود أنّٰه لا ضابط لسلوكه ومعاملاته إلاّ منفعته الشخصيّة وإن ارتبطت بمضارّ تلحق أقرب الناس إليه.
في كتابه العقل الأخلاقي العربي يشير الجابري إلى القيم المركزية التي كان عليها مدار تجارب تاريخيّة كبيرة، فكانت “السعادة” عند يونان و”الطاعة” عند فارس و”المروءة” عند عرب الجاهليّة، وأمّٰا القيمة الرئيسيّة التي تأسست عليها تجربة العرب المسلمين فهي “المصلحة”.
وعندما نعود، إلى النص المؤسس وما حام حوله من نصوص ومن بينها النص الفقهي الأصولي سنجد أنّٰ مدار “النص الإسلامي” بمعناها الواسع مشدود إلى هذه القيمة. وقد عبر القرآن عن المصلحة بـ”ما ينفع الناس”، فيكون سائر ما ينتجه الإنسان من أقوال وأفعال رغوة سريعة الزوال ولا يبقى إلاّ ما ارتبط بـ”المصلحة”.
وفي النص الأصولي قاعدة عظيمة تكاد تلخّص “الرسالة” وغايتها القصوى. وهذه القاعدة الأصولية هي: حيثما مصلحة فثمّ شرع الله. هذه القاعدة ثورة لا يُنتبه إلى ثقل ميزانها، وهي ليست “ثورة في الفكر الإسلامي” بل ثورة في الفكر الديني والإنساني (دين ضد الدين بعبارة شريعتي). وفيها قطيعة من “عبادة الشرع” إلى “التعبُّد به” التعبد الذي يسع الحياة كلها، بل “الأخطر” أن تجعل شرط إضفاء صفة الشرع على الفعل هو “المصلحة”، وهذه أحد أسس “العلمانية الإسلامية”، فالشرع مشروط بالمصلحة العامة. وعلى الناس أن يجتهدوا للاتفاق على ضبط مصلحتهم العامة (وهذا هو جوهر المشترك)، وهي مصلحة متغيرة بتغير الآزمنة والأمكنة غير أنها مؤطرة بجملة من المقاصد.
القرآن يحث على علمانية التجربة الإنسانية، اي تاريخيتها وطبيعتها البشرية وشروطها الأرضيّة: إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، بشرية الرسول، العلاقة العموديّة مع الله مشروطة بالعلاقة الأفقية مع الإنسان: تصريفها مصلحةً تخدم علاقة الإنسان بالإنسان (من لم تنهه صلاته عن الرذائل فلا صلاة له).
المصلحة، جوهر الثورة الإسلامية، أي الحداثة المنشودة، وقد عبّرت أوروبا عن جانب منها ولكنه بقي حبيس الشروط القوميّة من ناحية، والتصور اليهو-مسيحي للدين، من ناحية أخرى. لذلك بقيت العلمانية المعاصرة “مسيحيّة”، وكثير من “علمانيينا” مسيحيون وهم لا يعلمون، إذ لم يتفطّنوا إلى أنّٰ جوهر الحداثة الغربية، وإن ادعت القطع مع الدين، هو أنّها نجحت في تحويل نصها المؤسس اليهو-مسيحي إلى مفاهيم لم تنقطع عن نسغها الروحي (فالهيغلية والماركسية والنيتشوية والفيبرية لم تقطع مع روحها اليهو-مسيحي رغم قوة الصياغات، وجنوح المعجم).
الشابي، عندما يتخلّص للحظات من الرومانسية وجوهرها المسيحي (لم يكن يعي ذلك)، يستفيق فيه اللوجسيال الإسلامي فيبدع في ترجمة روح القرآن (إنّ الله لا يغيّر،،،،،إذا الشعب يوما أراد الحياة، فلابد أن يستجيب القدر)، وترجمتْها الجموع بفطرتها المواطنية: الشعب يريد…
هذه من لطائف الثورة التي لم ينتبه إليها مثقفونا وسياسيونا وانخرطوا في ترجمة ما بدأته الحشود إلى “الثقافة المسيحية” غير واعين بأثرها. لذلك لم يجد الأوربيون في خطاب مثقفينا عن ثورتنا “جديدها” وإنّٰما استمعوا إلى ترجمة لم يجدوا فيها إلاّ “قديمهم” (بضاعتهم الديمقراطية ترد إليهم، ولم يجدوا “ديمقراطية أخرى” وانتظاما آخر، فتراجعوا خائبين: أرادوا صوتا فانتهى إليهم الصدى).
المصلحة ثورة، انتبه ماكيافلّي إلى بعد من أبعادها، لوقوعه تحت تأثير اللوجسيال المسيحي، ولكن قليل الانتباه منه في “كتاب الأمير” كان، إلى جانب الأخلاق البروتستانية، كفيلا بازدهار السياسة والرأسمالية ونهضة أوروبا الحديثة.
ولم تكن النزعة الاشتراكية إلا ردة فعل مأزومة عن تصور الرأسماليّة لمعادلة القيمة والمصلحة، بل لم يكن جزء من تاريخنا (علي/معاوية) إلاّ اختلافا حول تصريف مفهوم المصلحة (حدود المجال السياسي).
ذكرنا أنّٰ الثورات تخلف النبوّات فتكون دورية حين تحوّل الدولة كل القيم إلى قانون فتضيع المصلحة، فتأتي لتعيد تأسيس المصلحة كما ضبطتها الثورة المحمدية، وفي كلمة المصلحة اليوم هي في وجود معادلة جديدة بين السوق والقيمة، بين السياسة والأخلاق، فمازلنا نعيش تحت النتائج السياسية للحرب العالمية الثانية التي مثلت أعلى مراحل “الحداثة السياسية الأوروبية”، ورغم قوة الخطاب النقدي “ما بعد حداثي” فإنّ الوضع پراوح مكانه بل ينحدر بقوة نحو التوحّش، ولكن تبقى رسالة الثورة “الشعب يريد إسقاط النظام” الخطوة الأولى المتبعة إلى ضرورة إعادة إنتاج “المصلحة” في شروط جديدة قد تغير تصوراتنا للسياسة والسوق والنظام والعلاقات الدولية…