تونس بعد الانتخابات الأخيرة: ديمقراطية الباب الدوّار
عبد الرزاق الحاج مسعود
لفهم نتائج الانتخابات المحلية الأخيرة في تونس وتفسير ما تمخّضت عنه من تراجع كبير في نسبة المشاركة الشعبية في العملية السياسية وما سمّي بعزوف الشباب عن السياسة وتراجع شعبية الحزب الحاكم بما قد يهدّد وجوده وتقدّم النهضة إلى المرتبة الأولى رغم خسارتها لنسبة كبيرة من رصيدها الانتخابي، وبروز ظاهرة المستقلين… لمحاولة تفسير حقيقة كلّ هذه التطوّرات واستشراف تداعياتها المحتملة على الديمقراطية التونسية الناشئة، علينا أن نبحث في الديناميّات العميقة التي صنعت هذا المشهد الجديد فعلا.
•••
من اللافت جدا أن لا يتفق اثنان في تونس اليوم حول قراءة نتائج أوّل انتخابات محلية بعد سبع سنوات من الثورة. لو كان ذلك عائدا إلى اختلاف زوايا النظر والتقييم، لكان الأمر طبيعيا حينها، ولكنه يعود في أغلبه إلى أن هذه المحطة الانتخابية الأخيرة كان لها خصوصيّات كبيرة تكاد تربك كل القراءات السياسية التقليدية.
المحطة الأخيرة حملت الديمقراطية التونسية الجديدة وغير واضحة المعالم و”الطارئة” على وعي الناس وثقافتهم (شعبا ونخبا) إلى كامل البلاد، وألقت بها في شوارع المدن المكتظّة بتناقضات أحيائها الغنية والفقيرة وبالحركة والزحام والفقر والأمية والجريمة واللامبالاة والشباب المنشغل بخياله “الرقمي” عن شأن جغرافيته الضيقة بشؤون العالم، وإلى الأرياف والقرى المطلّة على صخب المدن أو النائية في عمق الداخل والصحراء والمترددة في العودة إلى عزلتها الطويلة بعد أن أعادتها الثورة إلى مركز الفعل السياسي الوطني.
مهم أن نفهم الحالة التي وصلت فيها الديمقراطية التونسية الجديدة إلى محطة الانتخابات الأخيرة حتى نفهم النتائج التي يجري تفسيرها من دون الانتباه إلى سياقاتها.
فوضى التأسيس: أو الايديولوجيا الغافلة عن براكين التاريخ:
نكاد نجزم بأن تونس أحزابا وشعبا بلغت محطة الانتخابات المحلية الأخيرة مرهقة ومستنزفة بفعل كثافة تأسيسية “جنونية” أراد خلالها التونسيون تدارك غيابهم عن السياسة امتدّ عقودا وغيبوبة عن التاريخ امتدّت قرونا.
فخلال ثلاث سنوات أولى من الثورة خاض جميع التونسيين حربا “وجودية” شاملة بحثا عن هويتهم “الضائعة” ليضمّنوها وثيقة دستور جديد أرادوه أن يحسم كلّ خلافاتهم: النظرية والفلسفية حول علاقتهم بالله والدين والضمير ومنظومة حقوق الإنسان الكونية، والسياسية حول طبيعة الحكم والدولة، والتاريخية حول طبيعة المجتمع. ثلاث سنوات نزف التونسيون خلالها كلّ معارفهم القديمة وكلّ حماسهم وقدراتهم الذهنية والسجالية لينتهوا إلى تسويات نظرية كبرى أرضت الجميع ولم ترض أحدا، وحسمت كلّ شيء ولم تحسم شيئا.
في أثناء ذلك، وحين كان الجميع مشغولين بالتحديق في سماء النظريات و”القضايا” الكبرى، كان مرجل الواقع يغلي في المدن والأحياء التي لم تنته من توديع شهدائها من الشباب. شباب قدموا حياتهم في مواجهة آلة دولة جبّارة أعجزت أجيالا متعاقبة من آبائهم. لكنّ هذا الشباب نفسه الذي خرج من هامش وعي الأجيال القديمة سيواصل في جزء كبير منه خروجه “الغريب” عن الجميع بانخراطه في “أصوليات” ستكون هي الخنجر الذي سيمسكه أعداء الثورة ليطعنوها به الطعنات القاتلة الأولى.
ورغم هبّة الوعي المفاجئ التي حدثت سنة 2014 بـ”لملمة” الدستور واستكماله تحت الخوف من المجهول، ثمّ المرور السريع إلى حكومة وحدة وطنية أوقفت انزلاق البلاد نحو الحرب الأهلية المفتوحة، فإن نتائج الانتخابات التشريعية والرئاسية تلك السنة لم تصمد طويلا. ظنّ الكثير حينها أن البلاد حصلت على توازنها الحزبي الضروري لاشتغال الديمقراطية التمثيلية في حدّها الأدنى. لكنّ التطوّرات اللاحقة ستثبت هشاشة المشهد السياسي، لتدخل البلاد ما يمكن تسميته بـ”ديمقراطية الباب الدوّار” حيث يدخل كلّ فاعل من بابه “الخاصّ” (ليبرالي إسلامي قومي شيوعي فوضوي…) فلا يختلط بغيره من “جواره” الديمقراطي، ثم لا يلبث كل داخل أن يخرج في وضع غير الذي دخل به ليستأنف المحاولة باسم جديد أو يترك مكانه لفاعل آخر لن يكون-إلى حد الآن- أفضل منه حظّا.
ديمقراطية الباب الدوّار:
خلال سبع سنوات من عمر الانتقال السياسي وثلاث محطات انتخابية كبرى (2011- 2014- 2018) يدخل التونسيون الديمقراطية في كل مرة من باب جديد. أحزاب التأسيس بكلّ الزخم والحماس والمشاركة المكثفة التي رافقت اللحظة التي أعقبت الثورة تآكل كثير منها أو اندثر في الاستحقاق التشريعي والرئاسي بعد أربع سنوات من “الحقيقة” (وهي حقيقة معقّدة فعلا يتداخل فيها الذاتي الشخصي والموضوعي الواقعي والمؤامراتي الاستخباراتي…).
• انتخابات 2014 كانت فارقة من حيث النشأة/الطفرة التي أحدثها حزب نداء تونس بفوز كبير قلب به المعادلة السياسية برمّتها ليصبح قوة سياسية أولى جامعة لكل النقائض الفكرية لحركة النهضة (حتى الجبهة الشعبية اليسارية صوّتت لمرشّحه في الرئاسية). ولكنه خلال ثلاث سنوات لاحقة سيدخل مطحنة سياسية كبرى فقدَ خلالها تدريجيا عوامل قوّته وربما أسباب نشأته التي مكّنته من الفوز في انتخابات 2014: فقدَ زعيمه الكاريزمي الذي مثّل الخلاصة “الطريفة” و”الفكهة” الباقية من مشروع الحداثة البورقيبي، مشروع اختلف ويختلف حوله التونسيون كثيرا ولكنه استطاع فعليا تعبئة ملايين الناخبين المتحمسين خلف خطاب الباجي قائد السبسي وأوصله للرئاسة وحزبَه إلى الحكم. وفقدَ أغلب أركانه المؤسِّسة بسبب طموحاتها الفردية المَرَضية الجارفة لقيادة الحزب والدولة ورهانها الذي بالكاد تخفيه على الشغور المرتقب الذي سيخلفه الباجي بحكم العمر. وفقدَ أغلبيته البرلمانية لصالح “حليفه اللدود” أولا، ولصالح منشقين عنه يطمحون لإعادة إنتاج مناخ نشأته ووراثة مشروعه الحداثي المؤسس، حتى انتهى إلى مزيج من بقايا آلة الحزب القديم وشبكاته في خدمة مشروع وراثة عائلي يبحث من خلاله إبن الرئيس إلى إحياء تقليد حكم العائلة الذي لم يتخلّص مخيال التونسيين من ذكراه المظلمة.
هكذا يخرج النداء بعد تراجعه التراجيدي خلال الانتخابات المحلية الأخيرة من الباب الدوّار الذي دخل منه، دون أن يفقد قدرته نهائيا على إعادة الدخول من “نفس الباب” في محاولة قد تبدو عسيرة جدا لاستعادة مناخ النشأة بكلّ ما تقتضيه من استقطاب هووي وإيديولوجي لم يعد يغري طوابير المنتظرين لثمار الثورة الاقتصادية والاجتماعية، ولم يعد يستطيع إقناع جمهوره القديم بصدقيته بعد كل ما جرى. يفكّر نداء تونس حاليا بجدية في العودة إلى أرض/قاعدة “التبشير الحداثي” ليجمع فوقها كل الذين غادروه أثناء رحلة تيهه رغم علمه بأن بينه وبين هؤلاء مسافة “عقدة زعامة” لا تتسع لها أرضه الضيقة المشغولة بوهم زعيم في طور الولادة.
• ستغيّر حركة النهضة بدورها باب الدخول إلى الديمقراطية مرّة أخرى. بعد أن عادت إلى المركز الأول بثوب شبه جديد. نذكّر بأن انتخابات 2014 كانت فارقة أيضا من حيث تراجع حركة النهضة إلى المركز الثاني بعد أن دخلت الديمقراطية بفوز كاسح سنة 2011 حدّ منه كثيرا قانون انتخابي تعمّد تحجيم “الكبار” وتمكين الصغار من المشاركة في التأسيس. وهو قانون تمتنّ له كثيرا قيادة النهضة المدركة لمخاطر التغوّل (دون قواعدها المتعطشة للمعارك والثأر لهزائمها القديمة) وسعت جاهدة للمحافظة عليه لتستمرّ في تدوير حجمها السياسي بما يناسب هشاشة الديمقراطية التونسية سواء من حيث أحزابها غير المكتملة أو من حيث محيطها الإقليمي والدولي المتفجّر. وقد ترجمت ذلك الحرص بتبني خطّ التوافق السياسي بديلا عن المنافسة المفتوحة ضدّ خصم بنى شرعيته على مواجهتها (ولكنه “اضطرّ” إلى التحالف معها في تناقض مفاجئ مع روحيّة نشأته وفي ظروف لا أحد يستطيع الجزم بخلفياتها وكواليسها عدا تخمينات لا دليل عليها).
خيار التوافق السياسي مع ما تعتبره قواعد النهضة “ممثّل المنظومة القديمة” أو “الثورة المضادّة” كان مكلّفا انتخابيا لحركة النهضة، إذ فقدت بسببه جزء من أنصارها ومن أحزمتها “الثورية” المتعاطفة لصالح أحزاب “راديكالية” جديدة.
وإلى جانب “شبهة التطبيع” مع القديم، كان المؤتمر العاشر لحركة النهضة إيذانا بتغيّر مهمّ في هويتها أوّلا، وفي مناخها التنظيمي الداخلي ثانيا، حيث اختارت الحركة التخفّف من حمولتها الدينية التي تمثّل الجذر المؤسس لها والخيط الوجداني الجامع للمنتمين إليها. حمولة أصبحت عبئا عليها وخطرا في ظلّ اشتراك التنظيمات الجهادية التكفيرية معها في نفس المرجعية الدينية وتحوّل هذه الأخيرة إلى عنوان جامع لما يسمّى بـ”الإسلام السياسي” المقترن بـ”الإرهاب” على مستوى العالم. اختيارها لهوية “الإسلام الديمقراطي” في مقابل “الإسلام الأصولي” وتحوّلها المشوب بضبابية إلى حزب مدني ديمقراطي حديث دفع عددا مهمّا من جمهورها القديم إلى الانفضاض عنها نحو رموز تديّن تقليدي وطقوسي محافظ (تقدّمت للانتخابات المحلية الأخيرة في قائمات نافست قائمات النهضة بعد أن كانت جزء من ناخبيها). هذا الحرج الديني برز مؤخّرا في تردّد موقف الحركة حول قضية المساواة في الإرث ومراوحتها بين صمت ورفض كلاهما مكلّف، الأوّل مكلّف عند أنصارها والثاني عند حليفها (الذي خيّر تأجيل “قنبلة” المساواة في الإرث إلى ما بعد الاستحقاق الانتخابي المحلي ربما خوفا من تداعياته على الاستقرار وعلى حظوظه الانتخابية).
المؤتمر العاشر أخرج للعلن ولأول مرة بوادر حرب شقوق داخل حركة النهضة المعروفة بصلابة بنيتها التنظيمية وعقائدية لحمتها. ورغم توصّل الحركة إلى لملمة هذه الخلافات خلال الانتخابات الأخيرة والدخول إليها موحّدة فإن صدى تلك الخلافات لم يمرّ دون أثر على صورتها وحجمها.
كلّ ذلك جعل حركة النهضة تدخل الانتخابات الأخيرة من باب جديد، ففتحت قائماتها للمستقلين وخصّصت لهم نصفها كاملا لتتقدّم خطوة عملية كبيرة نحو مغادرة هويتها العقائدية وتتجه إلى فئات جديدة من الناس لم يكونوا يفكّرون يوما في التعامل معها فضلا عن الترشّح في قائماتها والحلول محلّ مناضليها القدامى. خطوة نوعية قد تبدو للبعض مجرّد مناورة انتخابية تداركت بها النهضة نقص رصيدها الانتخابي القديم، في حين أن آثارها الفعلية على هوية النهضة المتحرّكة ستكون حاسمة في شكل عودتها الانتخابية القادمة بعد أن حافظت على نصف حجمها ونصف هويتها السابقين.
المستقلّون: الظاهرة الجديدة:
• الوافد الجديد على المشهد السياسي من باب جديد أيضا هم المستقلّون. هذه “الظاهرة” السياسية الجديدة هي حصيلة ما كنا بصدد إثارته حول حصيلة سنوات التأسيس الديمقراطي الصّاخب والعنيف والذي تعرّض لكلّ محاولات التعطيل والتدمير، ثمّ سنوات حكم التوافق “المفاجئ” لقناعات المتوافقَيْن نفسهما، ثمّ هزّات النشأة والتطوّر والتحوّل وربما الأفول التي صاحبت ولا تزال الحزبين “الكبيرين” أساسا ممّا خلق حالة “يتم” لدى الديمقراطية التونسية التي ظلّت “تبحث عن أحزابها” (كما سبق أن وصّفناها يوما). كلّ ذلك صنع سياقا سياسيا تونسيا “خاصّا” سمح ببروز ظاهرة المستقلّين من رحم الأحزاب التقليدية وعلى هوامشها. أحزاب لا بدّ من التذكير بأنها لم تحظ بولادة طبيعية زمن الديكتاتورية، حيث كانت كلها تنظيمات سرية راديكالية اضطرّت للتكيّف مع ديمقراطية “طارئة”، ولكنه تكيّف سريع عجز عن استيعاب تنوّع أنصارها من حيث التكوين السياسي والمستوى الفكري والمدرسي وحتى طبيعة المزاج أو البنية النفسية التي تركت فيها تجربة القمع والسجن ندوبا عميقة. أما حزب النداء أساسا (والأحزاب الأخرى أيضا لكن بصورة أقلّ) فقد خرجت من صلبه قائمات مستقلة كثيرة شكّلتها رموز ندائية وتجمّعية لم تقبل بمراتب ثانوية في قائمات الحزب الذي صوّتت له في التشريعية والرئاسية وربما ستصوّت له لاحقا. بهذا المعنى لا يمثّل المستقلّون بديلا عن الأحزاب بل تعبيرا عن “خلل وظيفي” في أدائها، وقد يساهمون فعلا في دفع الأحزاب الحالية نحو مزيد من المرونة التنظيمية والانفتاح. مع ضرورة الإشارة إلى أن عددا (لا يستطيع أحد تحديده بدقة) من القائمات “المستقلة” الفائزة في الانتخابات الأخيرة شكّلتها أحزاب قدّرت أن تَقَدَمها في تلك المحليات بهويتها الحزبية قد يضعف حظوظها.
التفسير الديماغوجي لضعف نسبة المشاركة وظاهرة عزوف الشباب عن السياسة:
جرت الانتخابات المحلية بعد سبع سنوات من الهرسلة الإعلامية والسياسية للثورة والديمقراطية والأحزاب. وهي هرسلة منها الممنهج ومنها الأحمق الذي يردّد شعارات جاهزة دون إدراك لمضمونها التدميري. شعارات تشكّك في جدوى الديمقراطية لأنها لم تجلب منذ اليوم الأول للثورة الرخاء والشغل للجميع والتنمية للجهات المحرومة، وترذّل كلّ السياسيين الذين يسعون جميعهم خلف المناصب والكراسي على حساب مصالح الشعب والوطن، وتشيطن الأحزاب التي أصبحت في ذهن المواطن “عصابات” نهب وشبكات مصالح في حين أنها تنظيمات مدنية طوعية يشكّلها -في العموم عدا استثناءات لا تعدو أن تكون جزء من الواقع المطلوب تغييره- مواطنون لديهم الحماس والوعي بضرورة المساهمة في خدمة الشأن العامّ.
وهي الشعارات الملغومة نفسها التي روّجت لها دائما وتروّج لها اليوم بإصرار أكبر كثير من المنابر السياسية والإعلامية السطحية من قبيل “عزوف الشباب عن المشاركة السياسية” بحجة تفسيرية جاهزة مفادها أن الشباب يعاقب بوعي كامل النخبة السياسية الحالية بكل مكوّناتها على فشلها المطلق في الاستجابة لتطلّعاته “البسيطة” في الشغل والكرامة والرفاه. الاكتفاء بهذه الحجة الديماغوجية كسل فكري يعفي أصحابه من مشقّة التفكير. ورغم أني أفضّل منهج دراسة الحالة الذي قد يكشف معطيات تفسيرية مفاجئة وغير تقليدية ولا يمكن أن تبرزها الدراسات الكمّيّة على أهميتها، فإني سأجازف بسوق مقدّمات إجابة ممكنة. الشباب في كلّ أنحاء العالم يعيش على هامش المنظومة الرسمية أو في ظلالها الداكنة. وهو بحكم تركيبته النفسية والذهنية وبحكم عدم اكتمال “انتمائه الاجتماعي” باعتباره لم ينتم بعدُ إلى دورة الإنتاج الاجتماعي ( التلاميذ والطلبة وحديثو التخرّج الذين هم في عمر الانتخاب يعدّون بالملايين) لم يستجمع شروط بناء موقف سياسي واضح يخوض به معركة الانتماء إلى مؤسسات المجتمع ومنها المنتظم السياسي الحزبي. فضلا عن أن الشباب يميل طبيعيا إلى الموقف “الراديكالي” الجذري الذي لا تسعه مؤسسات رسمية تحكمها ثوابت القانون “المحافظ” دوما في نظره. عمر الشباب هو طور اكتشاف العالم والحياة وتجريب المختلف وغير المنضبط والاحتجاجي والاستفزازي لكل ما هو رسمي.
وإذا أضفنا إلى كلّ هذه العوامل العامّة عوامل أخرى تخصّ بيئتنا التونسية والعربية بشبابها وكل فئاتها، سنجد عوامل استقالة أخرى من الشأن السياسي لم تفلح لا جهود الإصلاح الفكري ولا مناخ الحرية الذي جاءت به الثورة في زحزحتها. جزء من تراثنا الفكري يرذّل الديمقراطية ويعتبرها “كفرا” أو/و آلية حكم مشبوهة جاء بها الاستعمار لاختراق هويتنا الحضارية النقيّة التي علينا أن نحفظها لنحفظ تميّزنا الدائم عن الآخر المختلف والمادي والمنحلّ أخلاقيا والذي لا حاجة لنا في تقدّمه السياسي المغشوش ولا في تقدّمه العلمي والمادّي الفارغ من الروح.
كثير ممّن لا يصرّحون بهذه الأفكار يحملونها مشاعر وانفعالات دفينة ويترجمونها استقالة من الشأن العامّ وسلبية مدمّرة للاجتماع السياسي المدني.
إلى جانب كل هذه العوامل التفسيرية، نضيف العوامل المتفق حولها تقريبا من قبيل انخراط النخب السياسية فعليّا في معارك طاحنة حول المواقع ومن صراعات إيديولوجية عنيفة ومنفّرة ومن تقصير مخلّ في أداء الواجب النيابي (وهو ما نقله الإعلام على المباشر،وهذا من صميم عمله وواجبه طبعا، ممّا غطّى على القليل ولكن الهامّ والضروري من المنجز السياسي من دستور وهيئات عليا تحفظ الحد الأدنى الديمقراطي السلمي)، ومن عجز عن الشروع الفعلي في مقاومة الفساد الذي استغلّ هذا التراخي الشامل في أجهزة الدولة ليتمدّد أكثر… بما خلق حالة من الضبابية السياسية العامّة ومن فقدان ثقة في المستقبل، وهما شرطان كافيان لانكفاء أعداد متزايدة من الناخبين ومن كل الفئات العمرية عن المشاركة السياسية.
في هذا السياق تأجّلت الانتخابات المحلية ثلاث سنوات كاملة، وتعطّل استكمال تركيبة هيئة الانتخابات لأشهر قبل أن تدخل في سباق مع الزمن للإعداد المرتجل لموعد انتخابي ضخم وغير مسبوق. ارتجال جعلها لا تقوم بجهد يذكر في تسجيل الناخبين وخلال الحملة الانتخابية. ثمّ كان ما كان من تأخير كبير في إصدار “مجلة الجماعات المحلية” الذي من المفترض أن تعتمد البرامج الانتخابية للقائمات المترشحة على طبيعة الصلاحيات التي ستسندها المجلة الجديدة للمجالس المحلية. فكان أن انطلقت القائمات في حملاتها وهي لا تعرف بأي قانون ستشتغل بما أثّر على مصداقية العملية برمّتها.
وإلى حدود أيام قليلة قبل الموعد الانتخابي كان الكثير يظنّ أنها ستؤجّل مرة أخرى، حيث طغى على الساحة الوطنية ملفّان حارقان كبيران: ملفّ التحوير الوزاري الذي طالب به اتحاد الشغل وضغط في اتجاهه في سياق اختلافه المعلن مع الحكومة حول أولويات الإصلاح الاقتصادي ومداه وهو ما كان يعني عمليا تخلّيه عن مساندتها وتلويحه بالخروج من وثيقة قرطاج بما يعنيه ذلك من كلّ التداعيات السياسية الممكنة، إلى جانب احتداد أزمة التعليم الثانوي وتخوّف العائلات التونسية من قرب السقوط في سنة دراسية واجتماعية بيضاء/سوداء، وهو أمر لو حدث لم تكن البلاد لتتحمّل تداعياته أيضا.
•••
عبرت الديمقراطية التونسية باب انتخابات محلية مهمّة وحاسمة كادت تعجز عن عبوره، وها هي تخرج منه بمؤسساتها التنفيذية والتشريعية وهيئاتها وأحزابها ومستقليها ومجتمعها المدني لتجد نفسها تقريبا أمام العتبة الأولى للديمقراطية.