من “يسار الدولة” إلى “يسار التاريخ”
زهير إسماعيل
[هذا تعقيب مني على مقال بجريدة لوموند بتاريخ أربعة أفريل 2018 عن مجمعة بريسبكتيف اليسارية التونسية وكيف أنّٰ “Mars 68” التونسي سبق “Mai 68” الفرنسي: Quand le Mars 68 de Tunis devançait le printemps de Paris]
تحيّة إلى شبيبة يسارية مناضلة كان لها فضل في “تسييس الفضاء العام” بخطاب جديد في مواجهة خطاب رثّ لدولة الاستقلال التي “أممت السياسة” وحصرتها في خلاف سياسي اليوسفيين شخصنت جوهره، وجسدتها في زبونية عمقت الانقسام الهووي والاجتماعي وأنشأت طبقة حاكمة سكنت الدولة دون أن تكون لها (إلى اليوم) ثقافة الدولة.
عيب بورقيبة القاتل أنه جعل من رفاقه “خدّامة عنده” وليس “خدّامة معاه”، أمّا بن علي فقد صيّر جانبا مهما من النخبة :”لجان يقظة” (من الدساترة) و”لجان تفكير (من اليسار الثقافي) و”أمن إيديولوجي” (من الوطد)، ومن ثمّ أساسا لاستبداد هجين “ما دون – مافيوزي” نعاني من قوته التدميرية إلى اليوم.
شباب بريسبكتيف كان سباقا (مارس 68 التونسي سابق ماي – الفرنسي)، ولم يكن صدى لليسار الأوروبي، رغم الوشائج المرجعية، ونجح في نحت معجم وعي سياسي جديد، لم تكن قبل عبارات “النظام” ” و”الوعي الثوري” و”الصراع الاجتماعي” و”النضال الطبقي”، من المفكر فيه. وتعدّ هذه التجربة أنجح التجارب في “تعريب الماركسيّة (بعبارة عبد الله العروي)، لأنّ الحزب الشيوعي التونسي كان في معظم تجربته صدى للحزب الأم في فرنسا، وكان انتباهه إلى المسألة الوطنيّة ضعيفا حتّى لم يفصله عن “تونس الفرنسيّة” إلاّ صياغات مرتبكة وخاصّة عند المتأخّرين.
تجربة بريسبكتيف اقتربت من أن تبني يسارا جديدا، ولكن لملابسات يضيق بها هذا المجال لم تخرج عن أن تكون “يسارا بورقيبيّا، وأفضّل أن أسميه “يسار الدولة”، ولو ركّزت في مسألة الثقافة الوطنيّة والسياق الذي تتحرّك فيه (الشعب التونسي العربي المسلم” لكانت سبّاقة في بناء “يسار التاريخ” وهو اليسار الذي يجعل من “خط الجماهير” بوصلة توصله إلى معادلة خلاقة تجعل من الثقافة الوطنية وعقائد الناس أساسا للعدل الاجتماعي ومقدمات للسيادة والاستقلال، وهو ما نجحت فيه تجربة مغمورة في حركة التحرر الوطني الفلسطيني هي “تجربة الكتيبة الطلابيّة” في جنوب لبنان (بنت جبيل، ومارون الراس، وجبشيت ومن رموزها وأبطالها: معين الطاهر، منير شفيق، علي أبو طوق، شفيق الغبرة…الخ.
في بلادنا لا اليسار استطاع ترجمة “العدالة الاجتماعيّة” إلى ثقافة الناس، ولا الإسلاميون نجحوا في ترجمة الأخلاقيّة الإسلامية إلى قيم عدل وسيادة واستقلال وطني… تجربة الحراك المهدورة كان هذا هو جوهرها وأفقها في آن: أن يعيش الناس العدل والرفاه والكرامة من خلال ثقافتهم وقيمهم الجامعة… وتبقى هذه المساحة منطقة فراغ في مشهدنا السياسي…
تحية إلى شخصيات عندما يذكر اليسار لا أستحضر سواها… شخصيتان أثيرتان: نور الدين بن خذر رحمه الله، وجيلبار نقّاش أمدّ الله في أنفاسه…
ويبقى “يسار التاريخ” الذي خطّ الأنبياء الكرام عليهم السلام مساره أفقا نتقدّم نحوه… وثورتنا تتحسّس هذا النهج رغم كثرة العقبات وفداحة العثرات… فالإنسانيّة سائرة كلها نحو بارئها، ونأمل أن تكون ثورة الألفيّة الثالثة خطوة في “السير الإيجابي نحو الله” بتحقيق إنسانية الإنسان، بعبارة الشهيد محمد باقر الصدر، وذلك هو جوهر “إدارة التعارف”.