المؤرخ لطفي الشايبي: الإشتراكيون الفرنسيون الماسونيون هم من كانوا وراء سلبيات وثيقة الإستقلال
ويتواصل سؤال حقيقة الاستقلال:
بعد الضجة الكبيرة التي أحدثتها ندوة مؤسسة التميمي ليوم السبت 7 أفريل الجاري حول إعادة كتابة التاريخ التونسي في بعض محطاته وأحداثه التي تم القفز عليها أو تناسيها وحول القضايا التي تم تهميشها ولم يتم الاعتناء بها في التاريخ الرسمي الذي كتبته دولة الاستقلال وكل الأسئلة التي طرحت بعد الثورة بخصوص التفاوض بين الجانبين التونسي والفرنسي لمنح تونس استقلالها والأسئلة الحارقة الأخرى التي لها علاقة بحقيقة المفاوض التونسي وهل كان كفءا في الدفاع عن المصالح التونسية وكل الظروف والسياقات التاريخية التي حكمت وتحكمت في التوصل إلى حل يمكن من تصفية الاستعمار بطريقة تعيد للشعب التونسي كرامته وحقوقه المسلوبة.
بعد تلك الندوة التاريخية التي تحسب للمؤسسة ومن المحقق أن يذكرها التاريخ يوما في كونها قد حركت السواكن وخلخلت أسس الرواية الرسمية التي يدافع عنها كل من له مصلحة سياسية في عدم إثارة سؤال الاستقلال من جديد وعدم فتح الباب للعودة إلى مناقشة محتوى بروتوكول الاستقلال حتى نتبين ونعلم حقيقته وعلى ماذا تفاوضنا مع فرنسا ؟ وعلى ماذا أمضينا ؟ وما هي الاتفاقيات الرسمية لتفعيل الاستقلال ؟
في هذه الندوة الجديدة قدم الأستاذ لطفي الشايبي الإضافة المعرفية لكل من يهمه هذا الجدل الفكري والتاريخي الذي يظهر اليوم ووضح اللبس الذي يثار اليوم حول مسألة التاريخ الرسمي والتاريخ المغيب ومسألة الاستقلال الفعلي والاستقلال الواهم وخاصة تقديم عناصر إجابة حول السبب الذي حال دون نشر وثيقة الاستقلال بالرائد الرسمي وعدم ايداع نسخة منها لدى الأمم المتحدة وحول الاستقلال الاقتصادي وعلاقته بالاستقلال السياسي. وأضافت هذه الندوة معطيات جديدة فسرت الغموض الذي طبع وثيقة الاستقلال في خصوص ضرورة الارتباط (الاستقلال في سياق التكافل L’indépendance dans l’interdépendance) وأثارت مسؤولية رئيس الحكومة الفرنسية الراديكالي الماسوني، “بيار منداس فرانس” (1954 – 1955) في تأجيج الصراع اليوسفي / البوقيبي حول أهلية المحاور الجدير “L’interlocuteur valable” للدولة الفرنسية من جهة وحصر التفاوض في الاستقلال الداخلي فقط وضرورة الارتباط بالدولة الفرنسية عن طريق معاهدة برضا الطرفين من جهة أخرى.
وهو ما جعل محاضرة المؤرخ لطفي الشايبي الذي استضافته مؤسسة التميمي في ندوة يوم السبت 21 أفريل الجاري أن تفتح لنوافذ أخرى جديرة بالاهتمام في مسألة حقيقة الاستقلال ووسعت النقاش بأكثر عمقا ليتواصل الجدل والحوار والسعي إلى استحضار ما تم تغييبه في ظروف المفاوضات التونسية / الفرنسية وملابساتها (1954 – 1956) إذ كانت طويلة (سبقتها مفاوضات حكومة شنيق أوت 1950 – مارس 1952 التي ضمت الأمين العام للحزب، صالح بن يوسف كوزير للعدلية) وعسيرة (الطرف التونسي القومي يريد الاستقلال التام والطرف الراديكالي والاشتراكي الماسوني الفرنسي يتمسك بالاستقلال الداخلي ووجوب الارتباط بفرنسا) ومريرة (التنازلات التكتيكية الظرفية التي قبلها الطرف التونسي في خصوص البنود التي تضمنتها الاتفاقيات التونسية الممضاة يوم 3 جوان 1955 حول السيادة الخارجية والعسكرية والاقتصادية والأمنية والتي أزالها في نطاق استكمال السيادة والتي تناولها بالدرس كل من الزملاء محمد الأزهر الغربي ومحمود فروة (الجانب الاقتصادي والمالي) والزميلة سامية المشاط، أستاذة التاريخ المعاصر بجامعة نيس:
العلاقات الفرنسية/التونسية. تاريخ سيادة مفتكة. باريس، دار لرماتون، 2005.
(Les relations franco-tunisiennes. Histoire d’une souveraineté arrachée (1955-1964).Paris, l’Harmattan, 2005).
وقد أشار المحاضر أيضا إلى مسألة الظروف التي حفت بافتكاك الموافقة على إمضاء وثيقة برتوكول الاستقلال التي حدثت إثر لقاء صاخب جمع الزعيم القومي بورقيبة برئيس الحكومة الفرنسية، الاشتراكي الماسوني، “غي موللي” (1956 – 1957)، والذي آل فيه الخلاف بينهما إلى مسك الزعيم بورقيبة بالاتفاقيات الفرنسية التونسية ودوسها). في هذه الندوة التي عرفت حضورا محترما يعكس قيمة الموضوع تكلم لطفي الشايبي عن المعركة التاريخية التي تحصل اليوم بين الجماعة التي سميت بجماعة بيان الستين مؤرخا وبيان الخمسين مؤرخا وهم مجموعة من المؤرخين والمدرسين للتاريخ والباحثين في تاريخ الحركة الوطنية وتاريخ تونس المعاصر الذين كتبوا بيانين يستنكرون فيهما دعوات مراجعة التاريخ وإعادة قراءته من جديد وبين مؤسسة التميمي ومن معها من المؤرخين مثل الدكتور توفيق البشروش وأستاذة القانون فوزية باشة المشتغلة على عقود الطاقة وعلاقتها بوثيقة الاستقلال والوثائق المكملة لها والإعلامي شكري بن عيسى وغيرهم من الذين يطرحون اليوم رؤية جديدة في فهم التاريخ التونسي المعاصر ويطالبون بضرورة إعادة السؤال عن التفاوض الذي حصل حول الاستقلال وضرورة إعادة القراءة لتاريخنا على ضوء ما ظهر من وثائق وحقائق وشهادات جديدة.
وقد تم تناول مسألة وثيقة الاستقلال وقال الضيف المؤرخ لطفي الشايبي إن اللبس الذي حصل ليس في عدم وجود وثيقة لاستقلال البلاد ذلك أن الوثيقة موجودة ويعرفها عدد من المؤرخين، لكن اللبس تعلق بمعرفة السبب الذي حال دون نشرها منذ ستين سنة وإظهارها للشعب الذي من حقه أن يطلع على وثيقة استقلاله.
تكلم الضيف عن مهنة المؤرخ الشاقة والصعبة ودوره في الوصول إلى الحقيقة التاريخية النسبية وعن مهمته المتواصلة في البحث والتنقيب والكشف عما خفي من التاريخ وتكلم عن مسألة المصادر وقيمتها في تقديم المعلومة التاريخية الصحيحة وأهمية المذكرات التي يكتبها السياسيون والزعماء الوطنيون الشاهدون على عصرهم وهي مذكرات قد اتضح أنها تكشف عن الكثير من الحقائق التي لا نجدها في المصادر الرسمية المطبوعة مثل الكتب التي يكتبها الكتاب والتقارير والبيانات التي تصدر عن السلط السياسية وهي شهادات تعد مصدرا مهما من مصادر التاريخ ولكن تحتاج الشهادة الشفوية حسب لطفي الشايبي إلى تقنيات خاصة للقبول بها.
تحدث عن الازعاج الذي أحدثه السيد عبد الجليل التميمي بتنظيمه ندوة علمية حول حقيقة وثيقة الاستقلال ومن قبله سهام بن سدرين رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة التي استفزت المؤرخين بإعلانها عن تلقيها وثائق تفيد تعرض الجنوب التونسي إلى قصف بالطيران الحربي الفرنسي سنة 1968 وتأكيد ذلك بالوثائق التي تحصلت عليها من فرنسا والتي تثبت أن الجنوب التونسي ومدينة بنزرت كانا إلى حدود سنة 1968 تحت تصرف فرنسا وتساءلت حول ماذا تفاوضنا سنة 1956 حتى تستبيح فرنسا أراضينا ؟ ومشكلة الازعاج هذه ردها المحاضر إلى وجود رؤية رسمية للتاريخ التونسي يدافع عنها بعض المؤرخين من وراء خلفية سياسية يرفض أصحابها أي اقتراب منها أو مساس بالقراءة والكتابة الرسمية لدولة الاستقلال.
تحدث الشايبي عما لاقاه من إقصاء وإبعاد متعمد عن الأضواء من طرف بعض الوجوه التي أمضت على البيانين بسبب كونه يقدم قراءة مختلفة عن القراءة التاريخية الرسمية فيها إفصاح عن الكثير من الحقائق التي توصل إليها من خلال بحثه المتواصل واليومي في الارشيف والمصادر والمراجع التاريخية المحلية والفرنسية بصفة أخص والتي لها علاقة بالتاريخ المعاصر. وأهم فكرة يدافع عنها الشايبي ويفسر بها ما حصل في تاريخنا السياسي المعاصر والتي أنتجت كل هذا الغموض حول الاستقلال وكيفية افتكاكه الذي خلف اليوم هذا الجدل الكبير، في الحضور الماسوني الذي كان منبثا في جهاز الحكم الفرنسي (نواب، وزراء، رؤساء حكومة، رؤساء جمهورية، مقيمون عامون…) ومتمسكا بإيجابية ووجوبية الاستعمار والسهر على ديمومته والتي نظر لها عن طريق “مدرسة جول فيري” (La colonie ça s’apprend à l’école).
يقول الشايبي لقد تتبعت تاريخنا المعاصر منذ انتصاب الحماية سنة 1881 حتى الإعلان عن الاستقلال وإمضاء الطاهر بن عمار على وثيقته سنة 1956 وتتبعت كل الأسماء الفرنسية الفاعلة في كل هذه الحقبة التاريخية وبحثت في انتماءاتهم الايديولوجية فوجدت أن التأثير الماسوني كان واضحا وكبيرا في بلادنا وأن كل السياسة الاستعمارية قد هندسها قادة من الحركة الماسونية فلا يمكن أن ندرس الاستعمار من دون التعرف على حجم الحضور الماسوني في النظام السياسي الفرنسي خلال الجمهورية الثالثة والرابعة ومن دون التعرف عن الأهداف الماسونية في العالم. فانتصاب الحماية كان وراءه التيار الاشتراكي الماسوني الفرنسي الذي يعتبر أن الاستعمار له رسالة حضارية وهي تأهيل الشعوب ورقيها ولما كان دخول فرنسا إلى تونس تحكم فيه الفكر والايدولوجيا الماسونية التي يتبناه الكثير من زعماء الحزب الاشتراكي الفرنسي، فإن عملية تصفية الاستقلال وفك الارتباط مع نظام الحماية لا يمكن أن يترك لأشخاص ليست لهم علاقة بالهدف الأول للماسونية وهو أن تبقى الشعوب على اتصال وتواصل دائمين مع الحركة الماسونية وأن تبقى الدول بعد استقلالها في علاقة ارتباط دائم مع من استعمرها وهذا ما يفسر الصعوبات التي لقيها المفاوض التونسي عندما شرع في التفاوض مع فرنسا حول الاستقلال حيث وجد صدا كبيرا في المطالبة بالاستقلال التام والنهائي وتم الضغط عليه للقبول بالاستقلال الداخلي والذاتي وهو استقلال منقوص وغير تام.
ما يمكن قوله حول هذه الندوة أنها أثارت مسائل كانت مغيبة ومثيرة وسبب الإثارة فيها كون من أثثها قد حول وجهة الجدل والنقاش التاريخي حول الاستقلال إلى فضاء آخر هو فضاء الماسونية وعلاقة المحفل الماسوني بالحماية والاحتلال والاستقلال ودوره في عملية التفاوض مع الحكومة التونسية والضغوطات التي مارسها رموزه على المفاوض التونسي حتى يقبل بوثيقة للاستقلال بالصيغة التي ظهرت عليها حتى قال عنها محمد المصمودي إنها ملغمة ونعتها صالح بن يوسف بالاتفاقية الملعونة!
وهذا ما يفسر أن الحركة الوطتية التونسية لم تجهر بطلب الاستقلال إلا في ثلاث مناسبات: أثناء الحرب العالمية الأولى عن طريق محمد باش حامبة، أحد قادة حركة الشباب التونسي في المهجر سنة 1916 وعبر المجلة التي بعثها في لوزان بسويسرا La Revue du Maghreb) 1916 – 1918) وفي مؤتمر ليلة القدر الذي دعا إلى انعقاده الحزب الحر الدستوري الجديد يوم 22 أوت 1946 وجمع كافة ممثلي التنظيمات السياسية والاجتماعية الوطنية والذي حضر أشغاله الزعيم فرحات حشاد. وتم نشر لائحة الاستقلال التي صرحت بإعدام نظام الحماية في كتاب “هذه تونس” الذي نشره د. الحبيب ثامر في القاهرة، منشورات مكتب المغرب العربي، سنة 1948، وفي مؤتمر الحزب المنعقد بنهج قرمطو يوم 18 جانفي 1952 الذي أعلن فيه الهادي شاكر وجوب تحرير البلاد واندلاع الثورة المسلحة.
مرة أخرى نجد أنفسنا بعد أربعة ساعات من الاستماع إلى محاضرة حول حقيقة استقلالنا أننا نعود إلى نقطة البداية ونطرح من جديد سؤالا كيف تحقق استقلالنا ؟ وهو سؤال فيما تفاوضنا عليه ؟ وهل نحن مستقلون فعلا أم نعيش وضعا من التبعية والارتباط الدائم مع فرنسا ؟ ويظل البحث متواصلا، وهو يحتاج إلى معالجة هذا الملف بعيدا عن الضوضاء الإعلامية والعمل على توظيف كل الوثائق والذي مازال العديد منها مغيبا، وقد تعهد د. التميمي بإعداد كتاب مرجعي حول كل وثائق الاستقلال.
تونس في 22 أفريل 2018