الشعب الفلسطيني تحت سلطتين
زهير إسماعيل
“السلطة الفلسطينية” تحت الاحتلال “الشاهد الدائم” على صنفيْ الاستعمار، وحقيقة الاستقلال في المجال العربي.
يبدو لنا، بعد أوسلو وقيام “السلطة الفلسطينية” في رام الله، أنّٰ الشعب الفلسطيني هو الوحيد، من بين العرب، الذي يعيش تحت سلطتين: سلطة الاحتلال وتحتها السلطة الفلسطينية التي هي بدورها خاضعة لسلطة الاحتلال، فلا يغادر أي مسؤول فلسطيني فلسطين، بما في ذلك رئيسها، إلا بترخيص من سلطة الاحتلال. وتتكامل السلطتان في الجانب الأمني، حتى صار الأمن الوقائي الفلسطيني بمثابة الجدار العازل الثاني الذي يحمي الاحتلال.
ورغم بعض التوترات التي حدثت، في التنسيق الأمني في أوّل انطلاقه، بين بعض العناصر الوطنية من الأمن الوقائي (أصلهم فدائيون مقاتلون)، فإنّ “القيادة الفلسطينية” عالجتها في إطار التزاماتها بتعليمات “دايتون”. فالوطني الفلسطيني والمقاوم ومناضل الحرية وفدائي التحرير يعيش تحت سلطتين، ويتعرّض لقهرين، وفي كثير من الأحيان، يجد أنّٰ قمع رفاق السلاح وذوي القربى أوغل في التنكيل وأقسى في المعاملة من المحتل نفسه (قمع لجان الرعاية من ميليشيات بورقيبة، في “صبّاط الظلام” وغيره من محتشدات التعذيب كان أشد من قمع المحتل بشهادة المقاومين اليوسفيين، وكلاهما عدوان على الذات البشرية وانتهاك لحرمتها).
لكن الحقيقة، أنّٰ وضع الشعب العربي تحت نظام الاستبداد العربي التابع، لا يختلف في شيء عن الوضع الفلسطيني، وخاصة قبل انطلاق الثورة من تونس، إلاّ في أمر واحد، هو أنّٰه في الحالة الفلسطينية يتزامن “الاستعمار المباشر” و”الاستعمار غير مباشر” (الاحتلال الصهيوني استعمار مباشر ولكن أعطيناه هذه الصفة لتقريب الصورة ولجعله من السلطة الفلسطينية نائبا عنه في بعض وظائف الاحتلال).
الاستعمار قبل خروجه، صنع أدواته وشروط تواصله وتواصل مصالحه، فيكون بذلك قد أوهم بانتهاء فترة الاستعمار، وحلول الاستقلال.
ولكن سرعان ما انتبه الكثير من المناضلين، مع خطوات الدولة الوطنية الأولى، إلى حقيقة “الاستعمار غير المباشر” أو التبعيّة، بعد خروج جيش المستعمر. وهو ما أعطى الشرعية لإطلاق المرحلة الجديدة من التحرر الوطني، بأبعادها الاقتصاديّة والثقافية والسياسية. وكُتِب في هذا أدبيات مهمة لم تعد تحظى اليوم بالأهمية التي كانت تحظى بها، بسبب تأثير تيار العولمة، وتوبة كثير من التيارات الفكرية والإيديولوجيّة.
السلطة الفلسطينية، بروفة عملية، وضبط مثير للحظة من تاريخ الاستعمار، يكشفان أنّٰ تزامن الاستعماريْن ما يزال حقيقة في المجال العربي، وأنّ الهيمنة حقيقة، وأنّ السياسة ليست محكومة بشروطنا الوطنية.
السلطة الفلسطينية تكثّف تاريخنا، وتوقفه عند نقطة مهمة، نقطة “الاستبداد الوظيفي التابع”، وتذكّر بأنّ “الاستقلال”، وإن انطلق مع خروج جيوش المستعمر، فإنّه مسار طويل وهدف مايزال بعيدا. هي صورة تفضح المهمة التي أريد لدولة الاستقلال أن تنهض بها، وهو ما جعلها “دولة وظيفيّة” علاقتها بالمهمة الوطنية شكلانيّة. وهي مشهد متواصل يبرهن على أنّٰ “المسافة القيمية” التي تفصل بين “دول الاستقلال” والاستعمار السابق هي نفسها المسافة القيمية التي تفصل بين “السلطة الفلسطينية” والاحتلال. فالاحتلال لا تحدّده المسافة الجغرافية بقدر ما تضبطه العلاقة.
والأهمّ، أن المشهدين في فلسطين والمجال العربي، وأن السلطتين الوظيفيتيْن فيهما، لهما أنصار ليس فقط من المثقفين والنخبة (وفي مقدمتهم المؤرّخين، وبيان “مؤرخينا الستين” عينة)، بل من شرائح غير قليلة حتى صار “الانقسام النمطي” حقيقة ماثلة.
ولكن المثير هو جذريّة هذا “المثقف الوظيفي” في مناهضة مخالفه ابن وطنه في الجهة الأخرى، مقابل تسامحه المفضوح تجاه “العدو والمحتل، المباشر وغير المباشر” وفضاعاته، ولكن دون مغادرة “خطاب الكفاح والتحرير والاستقلال وسيادة القرار الوطني” بلا حياء. فلا يكتفي بمحاصرة المقاومة (والناس العاديين الرافضين بفطرتهم للاحتلال)، وإنما يصرّ على سلبهم صفة المقاومة وخطابها باتهامهم بالتواطؤ مع العدو والمحتل وخدمة أجنداته.