العبّاسي محافظ البنك المركزي الجديد: “من قفّته باين عشاه”..!!!
عبد اللّطيف درباله
المحافظ الجديد للبنك المركزي التونسي مروان العبّاسي.. “الخبير الدولي العامل سابقا في البنك العالمي”.. كما يحلو لهم تقديمه وتلميعه لنا.. وفي أوّل ظهور إعلامي مطوّل له.. لم يتحدّث عن صدمته من الوضع المالي الذي وجده في تونس..
ولا صارحنا بصدمته من التراجع الحادّ لاحتياطي العملات الأجنبيّة..
ولا استغرابه من تخلّف المنظومة البنكيّة التونسيّة.. ووسائلها ومنتجاتها اليوم.. مقارنة بالبلدان المتقدّمة والنمور الاقتصاديّة الجديدة..
ولم يعط محافظ البنك المركزي الجديد شرحا وتحليلا كخبير.. لسبب إنهيار الدينار..
ولم يقدّم لنا نظرته ووصفته كمحافظ جديد لزيادة قيمة الدينار أمام العملات الأجنبيّة..
سي العبّاسي وكمحافظ جديد للبنك المركزي.. لم يبد استغرابه من المبالغ الضخمة بل والخياليّة للقروض غير الخالصة في تونس.. ومن كون عشرات الشركات ورجال الأعمال الذين تخلّفوا عن خلاص آلاف المليارات.. نعم آلاف الملايين من الدينارات المستحقّة عليهم للبنوك.. لا يزالون يديرون المشاريع الضخمة ويمتلكون المصانع والنزل السياحيّة والشركات الكبيرة والعقّارات ويعيشون عيشة المليونيرات بأموال البنوك.. ولا يزالون يحصلون مع هذا على قروض جديدة إضافيّّّة بمئات المليارات كلّ سنة.. ويحتفظون مع ذلك بعلاقات وطيدة ووديّة بالطبقة السياسيّة الحاكمة..!!!
سي العبّاسي لم يعلن دهشته من كون جميع البنوك في تونس تربح الأموال.. في ما عدا البنوك العموميّة فإنّها الوحيدة التي تخسر الأموال..!!
ولم يستغرب المحافظ الجديد من أنّ الدولة تدفع سنويّا مئات المليارات من أموال الشعب لتوازن وضعيّة بنوك عموميّة لا تشكو العمل في قطاع غير مربح.. ولكنّها تعاني فقط من سوء الإدارة والفساد والمحاباة والتلاعب ومنح القروض الوهميّة ومعدومة الضمانات..!!!
سي العبّاسي لم يبد استغرابه من كون أغلب البنوك الناجحة في تونس تسيطر عليها مصارف أجنبيّة.. وأنّ ذلك يعني بوضوح أنّ جهات وقوى ماليّة وسياسيّة أجنبيّة يمكنها أن تؤثر بقوّة في الاقتصاد الوطني.. وأن توجّهه كيفما تشاء بما يتوافق مع مصالح تلك الجهات الأجنبيّة لا مصالح الدولة التونسيّة..!!
ولم يستغرب سي العبّاسي بالإضافة إلى ذلك نزيف العملة الصعبة المستمرّ والمتفاقم.. الذي تحوّله الدولة سنويّا في شكل إعادة تصدير أرباح بعشرات أو بمئات ملايين الدولارات والأورو لفائدة المساهمين الأجانب في البنوك التونسيّة..!!!
سي العبّاسي لم يبد استغرابه مثلا لكون البنك المركزي التونسي الذي أصبح يديره يعتمد معدّل فائدة مشطّ في السوق الماليّة يناهز 5%..!!
ولم يستغرب سي العبّاسي بأنّ تونس مازالت تعتمد تبعا لذلك نسبة فائدة على القروض تعدّ من بين الأعلى في العالم.. إذ يتراوح معدّلها عموما بما بين 7 و9 % .. مقابل ما بين 2 و5 % فقط في أغلب بلدان أوروبا وأمريكا والخليج..!!
ولم يشرح لنا سي العبّاسي تأثير ذلك سلبا على الدورة الاقتصادية وعرقلة الاستثمارات وغلاء الأسعار وارتفاع نسبة التضخّم.. إلخ..
سي العبّاسي لم يبد لنا استغرابه وصدمته من أنّه وفي سنة 2018 لا يزال مجرّد تحويل ماليّ دولي من الخارج يستغرق أسبوعا كاملا للوصول إلى الحساب المصرفيّ لحريف في تونس..!!
سي العبّاسي وكمحافظ جديد للبنك المركزي.. وخبير دولي كما يقدّمونه.. لم يبد لنا صدمته واستغرابه من أنّ تونس لم تستغلّ موقعها الجغرافي وتوسّطها قارّتي أوروبّا وإفريقيا.. وتوسّطها حوض البحر المتوسّط.. لتصبح عاصمة ماليّة إقليميّة.. ومرفأ مصرفيّا متقدّما.. في جهة ناشطة وواعدة من العالم..!!!
سي العبّاسي لم يقدّم لنا رؤيته الشخصيّة وبرنامجه كمحافظ جديد للبنك المركزي عن تطوير العمل المصرفي في تونس.. وكيف يمكن أن تصبح البنوك قاطرة قويّة أكثر لاقتصاد وطني منهك ومتأزّم.. يريد أن يزدهر ويصعد..!!
لكنّ سي العبّاسي المحافظ الجديد للبنك المركزي.. والذي لم يستغرب.. ولم ينصدم.. ولم يفاجأ.. بكلّ ذلك الخور والتخلّف والتردّي في صلب ميدان مهمّته الجديدة كمحافظ للبنك المركزي.. صرّح في المقابل وفقط بأنّه مندهش لكون بلد مثل تونس يعاني أزمة اقتصاديّة وماليّة كبرى.. لا يزال يضيّع وقت عمل ثمين باعتماد نظام الحصّة الواحدة طوال ربع العام.. أي في ثلاث أشهر هي الصيف ورمضان.. داعيا إلى ضرورة التخلّي عن ذلك فورا والعمل كامل الوقت للنهوض بالبلاد..!!
يا سي مروان العبّاسي..
يا أيّها المحافظ الجديد للبنك المركزي التونسي..
ما قلته صحيح ما في ذلك شكّ..
وكلّ الناس في تونس.. كبيرهم وصغيرهم.. عالمهم وجاهلهم.. ودون الحاجة لأن يكون المرء محافظا للبنك المركزي.. أو خبيرا ماليّا ومصرفيّا دوليّا أو محليّا.. ولا أن يكون قد عمل سابقا بالبنك العالمي أو بصندوق النقد الدولي.. ولا حتّى أن يكون بوّابا أو حارسا لفرع بنكيّ محليّ.. كلّ الناس تعرف بأنّ العمل بحصّة واحدة طوال ثلاثة أشهر ينقص من أوقات العمل ويؤثّر على المردوديّة والإنتاج.. ولكنّ الجميع يعرفون أيضا بأنّ تلك ضرورة اجتماعيّة ومناخيّة.. ودينيّة في رمضان..!!
أمّا الكثير من خبراء الاقتصاد فإنّهم يعرفون بأنّ نظام الحصّة الواحدة مع ذلك.. وبرغم مساوئه تلك.. فإنّها ليست هي السبب الوحيد.. ولا هي السبب الأوّل ولا حتّى العاشر في الترتيب.. لتردّي الوضع الاقتصادي والمالي في تونس.. بل أنّها وبسلبيّاتها الظاهرة والمذكورة.. والتي شرحتها أنت أيضا.. لها في المقابل فوائد اقتصاديّة وماليّة أخرى كثيرة وملموسة ومعتبرة.. إذ أنّ أوقات الراحة والفراغ تشجّع الإستهلاك.. وتنمّي عدّة قطاعات مثل الترفيه والتسوّق والتجارة والخدمات والنقل والشحن والسياحة وأنشطة أخرى عديدة.. بما ينمّي بالضرورة عدّة صناعات مرتبطة بها.. ويكفي أنّ مئات الآلاف من الناشطين في الاقتصاد التونسي يحقّقون توازنهم وأرباحهم فقط من طفرة مواسم الذروة مثل رمضان والصيف.. وأنّهم لولا ذلك لأفلسوا..!!
وبذلك يزدهر خاصّة القطاع الخاصّ.. الذي يعدّ قاطرة للاقتصاد والإنتاج والازدهار في نماذج الاقتصاد الليبرالي الذي تعتمده تونس اليوم.. ويشجّع عليه البنك العالمي الذي كنت تفخر بالعمل به..!!
يمكن لسي مروان العبّاسي مثلا أن يسلّي نفسه ويثقّفها بالاطّلاع على الكثير من الدراسات والبحوث والتجارب الاقتصاديّة المنشورة في العالم في كتب ومراجع وتقارير.. والتي أثبتت بأنّ زيادة أوقات الفراغ والعطلات وتخفيض ساعات العمل.. تزيد بأثر واضح في نموّ الاقتصادات باعتبار أنّها تنمّي بلا شكّ نسبة الاستهلاك..والذي هو بالذات عماد اقتصاد السوق..
ولذلك فقد تبّنت فرنسا مثلا.. ومنذ سنوات نظام الـ 35 ساعة عمل فقط أسبوعيّا كطريقة للتغلّب على الأزمة الاقتصاديّة.. وقد خفّضت دول أخرى عديدة بدورها من عدد ساعات العمل أسبوعيّا.. وسمحت بنظام عطلة نهاية أسبوع مطوّلة ليومي السبت والأحد لدفع الاستهلاك تنمية للاقتصاد..!!
ويمكن لسي العبّاسي أيضا أن يطّلع على نظريّة اقتصاديّة كاملة للملياردير المكسيكي كارلوس سليم الحلو.. الذي احتلّ يوما مرتبة أغنى رجل في العالم.. ويصنّف سنويّا كأحد أغنى أغنياء العالم.. ولا نظنّك (عفوا) أكثر علما أو خبرة أو تجربة أو مهارة أو ذكاء ماليّا منه (!!!).. والذي دعا وفق رؤية شرحها تفصيلا إلى تقسيم الأسبوع إلى ثلاث أيّام عمل وأربعة أيّام عطلة وذلك طوال السنة.. كوسيلة لتحقيق الازدهار الاقتصادي في البلدان النامية.. وتفادي الأزمات في البلدان المتقدّمة والغنيّة..
وفي كلّ الأحوال.. فعلى مروان العبّاسي المحافظ الجديد للبنك المركزي التونسي أن يجد أوّلا حلولا لكلّ المشاكل المصرفية والماليّة الهيكليّة والعميقة التي هي السبب الحقيقي للوضع الاقتصادي والمالي الكارثي اليوم.. ثمّ يمكنه أن يمرّ إلى السرعة الثانية ويناقش التفاصيل الأخرى بعد ذلك..!!
لكنّ “دخلة” وبداية مروان العبّاسي في أوّل عهد مهمّته كمحافظ جديد للبنك المركزي التونسي.. والتي أثارت نقاشا ولغطا بين الناس حول نظام الحصّة الواحدة.. عوض أن تخلق أولى تصريحاته نقاشا راقيا ومفيدا حول مواضيع أهمّ مثل اختيار أو تطوير النموذج الاقتصادي والمالي الأفضل لتونس.. تدلّ بأنّ الرجل وبالإضافة إلى أسلوب “شعبويّ”.. فإنّ فكره وخبرته الماليّة والمصرفيّة لا تختلف كثيرا عن فكر أيّ مواطن تونسي عادي.. لا يشغل منصب “محافظ البنك المركزي”.. ولا يقبض أجرته الضخمة.. ولا يتحكّم في مصير المنظومة البنكيّة ولا يؤثّر في الاقتصاد الوطني..!!
وهو ما يجعلنا منشغلين مرّة أخرى.. وأخرى.. من مدى كفاءة وخبرة وأهليّة من يشرف على سياسة دولتنا واقتصادها وماليّتها..!!
وتذكّرنا هذه البداية المتواضعة بالمثل التونسي الذي يقول: “من قفّته باين عشاه”..!!!