تونس: إمتحان الإنتخابات المحلية ومصير الديمقراطية
عبد الرزاق الحاج مسعود
حديث سياسي من زاوية نظر ممكنة
مقدّمة:
تسير تونس بخطى حثيثة نحو موعد سياسي تاريخي يوم 06 ماي القادم، وهو انتخاب مجالس بلدية محلية بصلاحيات جديدة وواسعة تكاد تجعل منها “حكومات محلية مصغّرة” طبق قانون مجلة الجماعات المحلية الذي يقترب مجلس الشعب من إقراره النهائي.
بعد سبع سنوات من الثورة ومن صعوبات التأسيس والانتقال الديمقراطي الذي توقف مرارا وراوح مكانه وتراجع وانتكس في أكثر من مناسبة، ها هي البلاد تتقدّم نحو موعد سياسي استثنائي وسط ما يشبه البهتة العامة.
هي بهتة من لا يصدّق أن وضع الهشاشة السياسية العامة الذي يميّز الديمقراطية التونسية الجديدة قد يتمخّض عن خطوة عملاقة على طريق ترسيخ الخيار الديمقراطي في الواقع وفي وعي الشعب وثقافته السياسية.
ديمقراطية الدفع الذاتي أو أولى ثمار التأسيس الثوري:
يجري التقدّم الفعلي نحو محطة إرساء الديمقراطية المحلية في ظلّ/ ورغم:
• إحساس عام مشترك بانحسار الاهتمام الشعبي بالسياسة، وما تظهره استطلاعات الرأي من تراجع كبير في ثقة الناس في الأحزاب وفي السياسيين وفي جدوى الديمقراطية بعد كلّ الهرسلة الإعلامية الممنهجة التي تعرّضت لها كلّ مخرجات الثورة من طرف إعلام بقي جزء منه على ولائه للنظام القديم و سقط جزء آخر منه تحت سيطرة لوبيات المال الإقليمي والتوجيه السياسي الدولي المضادّ للثورات، وعجز بعضه عن فهم مقتضيات اللحظة الجديدة فتاه في برامج التهريج والتجهيل وتتفيه كلّ القيم الايجابية.
• ذهول الطبقة السياسية بكلّ أطيافها واستسلامها لتداعيات العجز عن إيجاد حلول تعيد للاقتصاد حركيّته الضرورية لخلق التنمية والثروة وتشغيل الشباب العاطل عن العمل والذي تتناهبه مشاريع اليأس والهروب والتدمير بكلّ أنواعها( المخدرات والجريمة والهجرة السرية والتطرّف).
ذهول السياسيّين يتبدّى في موقف أحزاب الحكم والمعارضة من الحكومة الحالية، حيث بلغ الأمر حدّ تخلّي حزب نداء تونس فعليّا عن حكومته خوفا من تضخّم رصيد رئيسها السياسي إن هو نجح في فتح ملفات الإصلاح الكبرى بما يؤهله لجني ثمار نجاحه في انتخابات رئاسية ستجري خلال السنة القادمة. أما حزب النهضة الشريك الثاني الهام في الائتلاف الحاكم فهو يبدو الأحرص ( حرص يسميه حتى بعض أنصاره خوفا مبالغا فيه) على استقرار سياسي يراه ضروريا لاستمرار الانتقال الديمقراطي في حدّه الأدنى. ولعلّه بسبب وعيه بأنه مستهدف من أكثر من جهة داخلية وخارجية، فإنه يتوخّى سياسة مسرفة في مسايرة مناورات الشق الحاكم من حزب نداء تونس الذي يبحث عن ضمان بقائه في السلطة بأي ثمن حتى يخوض الاستحقاقات الانتخابية القادمة من موقع “الحاكم”. مسايرة النهضة للنداء يعتبرها كثير من أنصارها عامل تشويش على هويّتها “النضالية” وسببا في تآكل شعبيتها.
مواقف أحزاب المعارضة نفسها لا تقلّ غرابة عن أحزاب الحكم، فهي تشترك كلّها، من أشدّها راديكالية ( على الأقل خطابيا) إلى أكثرها ليبرالية أو/ومحافظة، في التخوّف من سقوط الحكومة الحالية لعدم استعدادها لتحمّل تداعيات تغيير بهذا الحجم على مشارف استحقاقات انتخابية كبرى. ورغم انخراط بعضها فعليّا في مسار هرسلة الحكومة الحالية خلال الاحتجاجات الاجتماعية العنيفة التي شهدتها البلاد مطلع السنة الحالية وتتواصل من حين لآخر في قطاعات وجهات مختلفة، فإنها تتراجع كلّما شعرت بأن الحكومة على وشك السقوط خوفا من مجهول تعرف أنها لا تملك وحدها شروط التحكّم في وجهته وتداعياته.
• مناخ سياسي إقليمي ودولي غارق في عنف دموي وحروب مدمّرة بين دول ومحاور سياسية متناقضة لا تتردّد في دوس القانون الدولي واختراق سيادة الدول واستقلالها في عودة سافرة للتدخّل العسكري المباشر وللاستعمار، حتى كأن العالم يشهد اليوم حربا كونية شاملة ( تدور رحاها في أرض العرب أساسا) بين محاور تقليدية متمترسة خلف حصونها القديمة المهدّدة ( أمريكا واسرائيل) ومستبسلة في منع العالم من التقدّم، ومحاور عائدة/صاعدة( روسيا والصين) تستبسل بدورها في نيل حصّتها من التوزيع الدولي الجديد للنفوذ والمصلحة، ومحاور متردّدة أو عاجزة وتبحث عن فرصة للعودة إلى ساحة الفعل الدولي( أوروبا وفرنسا أساسا) وقوى إقليمية ( تركيا وإيران والسعودية ومصر والإمارات وقطر) تائهة بين استراتيجيات الدول الكبرى وتختلف بصورة جذرية أحيانا في خلفيات مواقفها السياسية وفي أوزانها وتأثيرها، وتشترك كلّها-اضطرارا أو اختيارا- في محاولة استغلال حالة السيولة التاريخية التي تعمّ العالم وحالة المواجهة بين اللاعبين الكبار لتحسين وضعها الإقليمي ولو على حساب مبادئ الجوار والانتماء التقليدي أحيانا، ورغم خطر التحوّل إلى أدوات تابعة ومنفّذة لاستراتيجيات هيمنة واستعمار دوليّين ستطالها هي نفسها عاجلا أو آجلا بعد أن يتمّ استنزافها في حروب وكالة تدغدغ فيها قليلا من وهم القوّة.
في ظلّ هذا المناخ الدولي العنيف، قد يتوهّم البعض أن تونس بعيدة عن رهانات التدخّل والتأثير الخارجيّين بسبب ما تشهده من حالة استقرار سياسي ظاهري، وبسبب هامشيّتها( فيما عدا الجوار الليبي) في خارطة الصراعات الدولية الكبرى. ولكنّ المدقّق في الحالة التونسية عن قرب يرى بوضوح آثار تدخّل القوى الإقليمية والدولية في محطات مهمة من مسار الإنتقال الديمقراطي الهشّ الذي ترنّح في مناسبات عديدة تحت ضربات “الإرهاب الموجّه” لولا أن عوامل عديدة اجتمعت للمساهمة في تأمين خروج شبه آمن لتونس من هذه الهزّات التي لا أحد يضمن عدم عودتها في أي لحظة.
رغم كلّ هذا، تتقدّم البلاد نحو محطّة جديدة من التأسيس الديمقراطي الجريء والطموح فيما يشبه “الحتمية الديمقراطية” التي تسير نحوها تونس بطاقة دفع ذاتي متأتية أساسا من زخم التأسيس الذي، على علاّته كلّها، أنتج مؤسسات دستورية مستقلّة أهمّها “الهيئة العليا المستقلة للانتخابات”. هيئة نجحت في الصمود أمام محاولات كثيرة للتعطيل والهرسلة والتشكيك، وها هي تجرّ الجميع خلفها نحو موعد انتخابي “اضطراري” يصرّ البعض- بخلفيات متناقضة تراوح بين الراديكالية الثورية الحالمة والعدمية، والحنين إلى الاستقرار الدكتاتوري القاتل- على اعتباره ديمقراطية شكلانية خالية من المعنى، دون أن يمنعهم هذا التشكيك المجاني في الديمقراطية من الاستفادة من خيراتها العميمة كالحرية التي تصل حدّ التهريج والعبث.
تثبت الديمقراطية التونسية الجديدة أنها قادرة، رغم هشاشتها وعدم رسوخها في الثقافة السياسية لدى الشعب والنخب سواء، على تفعيل آليات التأسيس التي صنعتها الثورة في انطلاقتها الأولى في غفلة من خصومها وفي حركة شبه لاإرادية/آلية من أنصارها.
هل تسير تونس نحو ديمقراطية فعليّة من خارج الوعي القديم؟:
أحدثت مرحلة إعداد القائمات الإنتخابية خلال الأسابيع الأخيرة زخما سياسيا كبيرا على أرض الواقع شمل كلّ جهات البلاد بمقتضى التقسيم البلدي الجديد الذي شمل كلّ التراب الوطني. زخم فاجأ حجمه الجميع بما في ذلك الأحزاب التي لم تصدّق إلى حدود آخر لحظات انقضاء أجل تقديم الترشّحات جدية الهيئة وقدرتها على المضيّ الفعلي في تنظيم انتخابات بهذه الضخامة في سياق سياسي عام يتسم بالركود والإحباط واللامبالاة والتشكيك. ولكنّ الواقع شهد زخما لافتا تمخّض عن تشكيل الأحزاب والمستقلّين ل2068 قائمة انتخابية في 350 دائرة بلدية تغطّي كامل تراب البلاد بمشاركة ما يقرب من 53850 مترشّح أكثر من نصفهم من الشباب. وهي أرقام تترجم حجم الحراك التاريخي والمجتمعي الذي ستحدثه الانتخابات البلدية القادمة، وحجم الخطوة العملية التي ستقطعها الديمقراطية- كشرط من شروط الحداثة والتقدّم- في واقع طالما تمنّع عنها ورفضها بدعاوى ثقافية كادت تصبح مسلّمات ( عدم قابلية الثقافة العربية الإسلامية للاختلاف والتنوّع والمساواة أمام القانون)، أو بدعاوى سياسية طالما تحجّجت بها الدكتاتوريات ( عدم نضج الشعوب العربية للحرية وما تقتضيه من وعي ومسؤولية).
بهذا المعنى قد نجازف بالقول بأن الحداثة التي فشلت النخب الفكرية والسياسية الليبرالية العربية في توطينها في وعي العرب وثقافتهم ونظامهم السياسي، والتي ثبت أن الاستعمار العالمي لم يكن لديه مصلحة قطّ في تسهيل انتقال العرب إليها، قد تنجح تونس-رغم أو بفضل هامشيّتها التي سبق أن أشرنا إليها- في فتح طريقها الخاصّة والضيقة والمتعرّجة إليها في “غفلة” من تاريخ العرب ومن مشاريع الاستعمار التي تهزّ العالم وتزجّ به في حروب ومواجهات ما زالت تطوّراتها تعتمل وتتفاعل ولا أحد يمكنه توقّع مآلاتها وتداعياتها على شكل العالم في المستقبل.
طبعا ليس من السهل أبدا الاطمئنان إلى هذا التوقّع المسرف في التفاؤل في ظلّ:
• بنية الوعي العامّ مشدودة إلى محاور الصراع التقليدي بين القديم والجديد. ومفردات الثقافة السائدة لدى الفئات الشعبية البسيطة والنخب على حدّ سواء ما زالت في عمومها مفردات انقسامية صراعيّة صداميّة وفاقدة للثقة في قدرة التونسيين على التفكير الحرّ وعلى الفعل من خارج خنادق الصراع الهووي والإيديولوجي القديم الذي استنزف عقودا طويلة من أعمار أجيال متعاقبة راودها حلم التغيير والتحديث والتنوير. صراع، رغم إسهامه في لحظة ما في تفعيل محرّكات التفكير والتحديث بما خلقه من انفتاح على تيارات التفكير الإنساني، فإنه انتهى إلى انقسامات عميقة بين “طوائف وقبائل إيديولوجية”( مصطلح عائلات فكرية لا يعكس حجم العداء والحقد الذي يميّز العلاقات بل القطائع بين تيارات الفكر والسياسة في كل البلاد العربية) تحوّلت إلى فتائل حرب أهلية شاملة قابلة للاشتعال في أي لحظة إن توفّر لها المفعّل الخارجي الذي لا يتردّد في ذلك خدمة لمصالحه الاستراتيجية الكبرى التي ما زال جزء هامّ منها يمرّ بجغرافيا عربية لا تزال متوفّرة على كثير من إغراءات الاستعمار.
• وفي ظلّ مشهد حزبي ضبابي وهشّ ومتغيّر ومخترق داخليا(لوبيات المال والفساد وشبكات النظام القديم) وخارجيّا(محاور إقليمية ودولية ترى في الديمقراطية تهديدا استراتيجيا لمصالحها).
هذا المشهد الحزبي موروث في عمومه من مرحلة ما قبل الثورة. حيث يسيطر على الحياة الحزبية حزب نداء تونس الذي يمثل في أذهان خصومه وفي أذهان منخرطيه وقياداته- رغم إنكار بعض الوافدين إليه من مشارب فكرية يسارية ونقابية زمن التأسيس الأول في جوان 2012- الامتداد الطبيعي التنظيمي والفكري للحزب الذي هيمن على السياسة منفردا منذ مرحلة التحرير الوطني مرورا بمرحلة بناء الدولة “الوطنية” وصولا إلى مرحلة الدكتاتورية والفساد الشامل التي سبقت الثورة.
لكنّ الحزب، بعد نجاحه السريع في تحقيق التوازن السياسي ضدّ حركة النهضة، دخل أزمة كبرى كادت تنهيه. إذ شهد انقسامات كبرى بعد فوزه بانتخابات 2014 التشريعية والرئاسية وانشقّ عنه جزء كبير من قياداته المؤسسة ودخل مرحلة شلل فعلي لم يحدّ من تداعياتها عليه إلا وجود رئيسه المؤسس في رئاسة الدولة ودعم حليفته/منافسته حركة النهضة له في المجلس التشريعي رغم فقدانه للأغلبية فيه لصالح الأخيرة، وغياب معارضة قادرة على تغيير معادلة الحكم سواء تشريعيا بسحب الثقة من الحكومة الحالية أو ميدانيا بتسيير مظاهرات مطالبة بانتخابات سابقة لأوانها رغم أنها حاولت أن تفعل أكثر من مرة قبل أن تتراجع أمام عجزها عن تحريك الشارع.
كاد الحزب يفقد السيطرة على رئيس الحكومة الذي كان قياديا فيه حين تعيينه لرئاسة السلطة التنفيذية قبل أن يرسل بإشارات واضحة عن رغبته في الابتعاد الهادئ عن حزبه الأم استعدادا لخوض مغامرة الانتخابات الرئاسية المقررة للسنة القادمة من موقع مستقلّ بعيدا عن أزمة الحزب ومدعوما ببعض النجاحات في الملفّ الأمني وربّما بناء على قراءة للنموذج “الماكروني” ( نسبة إلى الرئيس الفرنسي إيمانيوال ماكرون الذي جاء من خارج المنتظم الحزبي التقليدي ليقفز فوق تاريخ كل الأحزاب التي عجزت عن منافسته). قراءة قادته إلى الاعتقاد في فراغ سياسي قادم يسع طموحه الرئاسي بعد خروج مرجّح للرئيس الحالي من السباق، وفي خلوّ الساحة الحزبية من منافسين حقيقيّين أمام الأزمة الحزبية والقيادية العامة. كان ذلك قبل أن يفاجأ بقدرة آلة نداء تونس على تشكيل قائمات انتخابية حزبية في كل الدوائر البلدية، الأمر الذي عجزت عنه كلّ الأحزاب عدا حركة النهضة، ليعود ويعلن انتماءه لنداء تونس ويربط مصيره بمصير حزبه الذي أثبت بنجاحه الأخير أنه لا يزال قادرا على الصمود على الأقلّ قبل أن تبوح الانتخابات القادمة بنتائجها النهائية.
حركة النهضة بدورها جزء من المشهد القديم. وهي تبذل جهودا كبيرة للتكيّف مع المشهد الديمقراطي المدني الجديد بنسق يفاجئ أحيانا أنصارها قبل خصومها. فهاهي تقدم على ترشيح مواطن تونسي في قائماتها البلديّة شكّل انتماؤه الديني اليهودي مفاجأة لوعي عام سائد ما زال لم يستسغ تعالي الديمقراطية عن الهويات الدينية والطائفية. وهي بحكم إصرارها على التذكير بخلفيتها الإسلامية- حرصا على ميزتها الثقافية الهووية الأثيرة لدى جمهورها ولدى جزء من قياداتها التاريخية- تجد نفسها مضطرّة لتأصيل شبه فقهي شبه سياسي لخطوتها التي من المفروض أن تكون عاديّة في السياق الديمقراطي المدني. والأغرب أن يكشف هذا الترشيح الأول من نوعه العمق التمييزي اللامدني لدى خصومها المحسوبين على الليبراليّة والتقدّميّة واليساريّة الذين لم يستسيغوا هذه الخطوة بدعوى أنها لا تعدو أن تكون مناورة انتخابية من طرف حركة النهضة عوض أن يباركوها كخطوة ضرورية لكسر هذا “الطابو” في المخيال الثقافي العامّ.
لذلك لا يخفى على مراقب حجم التمزّق والتردّد في السلوك السياسي لحركة النهضة وفي فكرها بين الانخراط الكلّي الواعي والجريء في حداثة سياسية كاملة لا تحتاج فيها السياسة إلى تأصيل/تبرير فقهي بقدر ما تحتاج إلى منظومة تشريعية قانونية تحفظ الحقوق والحريات والواجبات، وبين الانشداد إلى هوية تراثية قد تكون جاذبة انتخابيا ولكنها معطّلة لتطوّر ضروري تخطو فيه النهضة خطوات بطيئة. بطء قد يكون مبرّرا في محيط موغل في المحافظة رغم ظاهره الحديث.
بقية المشهد الحزبي من يمينه الليبرالي (حزب آفاق والمشروع والبديل وبعض الأحزاب الدستورية كالمبادرة) مرورا بوسطه الاجتماعي ( الحراك والجمهوري والتيّار الديمقراطي وحركة الشعب) وصولا إلى يساره الايديولوجي (الجبهة الشعبية) يتنازعه اتجاهان كبيران: محاولة التجمّع والتحالف استعدادا لملء فراغ سياسي قد يطرأ في صورة فشل الحزبين الحاكمين في الموعد الانتخابي القادم. وهو ما تبلور في مبادرة “الإتحاد المدني” الذي تقدّم للانتخابات البلدية في 382 قائمة ائتلافية ( قائمات حزبية من داخل الاتحاد، وقائمات مستقلة يدعمها الاتحاد وقائمات باسم الاتحاد) تمهيدا لتشكيل قوّة سياسية بديلة للتحالف الحاكم.
ورغم أهمية المبادرة وربما ضرورتها لتجديد المشهد الحزبي وتحريكه، فإن ضُعف هذا العدد مقارنة بعدد القائمات المترشحة ( 2176 قائمة)، وما يعرفه المراقبون عن قادة الأحزاب المشكّلة للاتحاد من طموح جارف للزعامة، يجعل من المراهنة على استمرار المبادرة وتطوّرها من قبيل المعجزة.
الاتجاه الثاني تمثّله الجبهة الشعبية التي نجحت في المحافظة على وحدتها الداخلية وعلى خطاب سياسي راديكالي يميّزها عن غيرها من كلّ الأحزاب ويمثّل عامل جذب للشباب الذي يميل بطبعه للتغيير الجذري. غير أن عزوف أغلب الشباب عن التسجيل في السجلّ الانتخابي يحرمها من رصيد سياسي كان يمكن أن يحوّلها إلى قوّة سياسية مؤثرة في المعادلة الحزبية.
خاتمة:
ليس مستبعدا أن تجدّد الانتخابات المحلية القادمة وما يمكن أن تفرزه من ديمقراطية أفقية مباشرة قواعد الانتظام الحزبي التقليدي، خاصّة إذا حقّقت القائمات المستقلّة التي بلغ عددها 900 قائمة نتائج جيّدة. فضلا عن أن القائمات الحزبية نفسها تضمّ أعدادا كبيرة من المستقلّين بما سيؤثر حتما في بنية الأحزاب نفسها وفي التخفيف من هويّتها الإيديولوجية التقليدية تدريجيا ويحوّلها إلى أحزاب براغماتية برامجيّة منفتحة على تحدّيات الواقع العملي ومشاكل الناس الفعلية. وهو ما من شأنه أن يرسّخ الديمقراطية في واقع الناس وفي ثقافتهم السياسية اليومية. بهذا المعنى سيكون الاستحقاق الانتخابي المحلّي القادم محدّدا في مصير الديمقراطية التونسية الناشئة.