الغوطة.. مسؤولية من ؟ وما العلاج ؟
أبو يعرب المرزوقي
قد يعجب الكثير من قولي إن من يهدم مدننا ويقتل أطفالنا ويشرد نساءنا ويقطع أرزاقنا ويعتدي على حرماتنا أقل مسؤولية من الأجيال المتوالية منذ الفتنة الكبرى إلى الفتنة الصغرى ممن ساسنا ومنا لأننا قبلنا أن يسوسنا بمعنى أن يحكم وأن يربي دون أن يكون أهلا للحكم والتربية.
لذلك فأكثر شيء يؤلمني هو هذا التباكي والاحتجاج على الآخرين لعدم تحركهم من أجل حماية أبنائنا في الغوطة والكلام على النظام الدولي الظالم وتكالب الأعداء على السنة من كل مليشيات العالم وجيوشه التي تتناهش جسدا فسدت في أصحابه “معاني الإنسانية” فصاروا عالة على الغير.
يقول بن خلدون مفسرا “فساد معاني الإنسانية”: “وفسدت معاني الإنسانية التي له -من سيس بالعنف تربية حكما- من حيث الاجتماع والتمدن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه أو منزله وصار عيالا على غيره في ذلك بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس وعاد أسفل سافلين” (المقدمة الباب 6 الفصل 40).
هذا هو ما ينبغي أن يتهم وليس الأعداء لأن الله حذرنا في قرآنه الكريم بما لو احترمناه لما حصل ما نراه: الأنفال 60. ما يحزنني أكثر مما يجري رغم كونه يقطع القلوب هو ما أوصلنا إلى أن نكون كما يصفنا ابن خلدون: عيالا على الغير بإطلاق.
وحتى لو افترضنا أن بعض حكام العرب وبعض نخبهم كانوا صادقين فلن يستطيعوا النفير -وهو أمر مستحيل لأنه لا يوجد حاكم عربي واحد ذا سيادة تمكنه من أن يتحرك بما قد تمليه عليه الحمية- لأنهم جميعا ليسوا إلا حراس محميات حركاتهم مقيدة حتى في شؤونهم الداخلية فضلا عن السياسة خارج حدود محمياتهم.
ولو كان لهم ذرة من سيادة لما احتاجوا إلى النفير: كان يكفي مد الثوار بسلاح بسيط ضد الطيران وهو ما به أسقطت أمريكا السوفيات في إفغانستان لما أمدت به المجاهدين. وها نحن نراها تمد به ماركسيي الأكراد حتى تفجر الإقليم كله بتخريب أربعة دول محيطة فتستكمل مشروع الحرب العالمية الأولى.
قد لا يصدقني القارئ لو سمعني أقول إن ما أراه من رفع للأكف ودعاء ونداء واحتجاج على العالم اللامبالي بما يجري للسنة عربهم وأتراكهم وأكرادهم (من غير العلمانيين منهم) وأمازيغهم (من غير العلمانيين منهم) يؤلمني أكثر مما يجري للمسلمين بسبب هذه اللامبالاة التي لا أحمل العالم مسؤوليتها.
فاللامبالاة المسؤولة بحق هي لا مبالاة الأجيال الإسلامية المتوالية من الفتنة الكبرى إلى اليوم لأنها كلها وبلا استثناء أهملت شروط الإستعمار في الأرض والإستخلاف فيها بشروط الحريتين الروحية والسياسية فأصبحت علاقتهم بالطبيعة وبالتاريخ محكومة بما وصف ابن خلدون من فساد لمعاني الإنسانية.
ولست أقول ذلك لأخفف المسؤولية عن الجيل الحالي ولا حتى على الإنسانية من حولنا بل لأن الحاضر كما سبق أن بينت ليس هو إلى ثمرة التقاء أحداث الماضي وأحاديثها مع أحاديث المستقبل وأحداثه. فأحداث الماضي وأحاديثه أوصلتني إلى ما نحن فيه ولا ينبغي أن تبقى أحاديث المستقبل وأحداثه من جنسها.
رفع الأكف بالدعاء والتباكي والتنديد بالظلم في العالم كل ذلك ليس مما يمكن أن يفيد أننا اتعظنا بمآل ماض لم يكن له من دور إلى ما ينتج عن هذا الموقف الرافع للأكف بالدعاء والمتباكي والمندد بالظلم بلا نظر ولا عمل يعالجان أسبابه العميقة والتي حاولت وصفها عند الكلام على تعطيل الدستورين.
ومن الرجولة أن نعترف بأننا ننال ما نستحق. فمن لم يحقق شروط حمايته ورعايته فهو المذنب إزاء ذاته والمجرم إزاء أطفاله والخائن إزاء وطنه والكافر بقيم دينه والخانع للطاغوت التربوي الذي ألغى الحرية الروحية والطاغوت السياسي الذي ألغى الحرية السياسية وهما دستورا القرآن.
طبعا لا أقصد الأطفال والشيوخ ولا حتى الكهول من القادرين: فالقدرة ليست فردية في الأزمات الوجودية التي من جنس ما تعاني منه الأمة الإسلامية. إنها حصيلة كل التاريخ في مجالات شروط الحماية والرعاية. ولهذه العلة وجدت الدول التي هي صورة العمران بلغة ابن خلدون: أي وعي الجماعة بظرفها.
ولما كان من المستحيل أن نحاسب الأجيال السابقة على ما فرطت فيه فإن كلامي لا يتعلق بهم لمحاسبتهم أو لتحميلهم المسؤولية بل هو متعلق بأن الجيل الحالي بموقفه المتباكي والمحتج ورافع الأكف بالدعاء ما يزال في نفس الموقف وبنفس اللامبالاة بشروط السيادة التي هي شروط الحماية والرعاية.
لست ألوم حكام العرب ونخبهم عن عدم الفزعة لحماية أبنائنا في سوريا وفي اليمن وفي ليبيا وفي كل أرجاء دار الإسلام من مندناو إلى المغرب فهم لا حول لهم ولا قوة حتى لو تحركت فيهم النخوة -إن افترضنا أن لهم شيئا منها- لأنهم جميعا مقيدون ليس بإرادة المستعمر بل بتجاهل شروط السيادة الفعلية.
ومن يريد أن يفهم القصد بشروط السيادة الفعلية فليراقب أي قمة عربية. سيرى فيها نقائضها كلها. تراهم في انتفاشهم وكأنهم يمثلون إمبراطوريات وهم في الحقيقة مجرد غفراء في محميات صنعتها بريطانيا وفرنسا وحافظت عليها أمريكا من بعدها. فجملتهم حتى لو توحدت لا تساوي دويلة بمنطق العصر الحالي.
وفي الحقيقة ففي كل عصر الدولة هي قدرة الجماعة الواعية بنفسها التي تستطيع أن تحقق شرطي السيادة أي الحماية والرعاية. لكنها في هذا العصر خاصة باتت الحماية والرعاية مشروطة بعلاج العلاقتين العمودية مع الطبيعة بالنظر وتطبيقاته ومع التاريخ بالعمل وتطبيقاته: بعدا السياسة الواعية بالشروط.
الشروط إذن هي شروط النظر وتطبيقاته وشروط العمل وتطبيقاته أو السياسة ذات الاستراتيجية التي تهدف إلى توفير شروط السيادة أو الحماية والرعاية. والثانية شرط الأولى. فيكون شرط كيان الدولة التي تحقق ذلك أن يكون لها الحجم المناسب للعصر. لذلك سعت أوروبا لأن تتجاوز عداواتها الماضية لتتحد.
هذه دول أوروبا أصغرها دخله القومي الخام يفوق دخل المحميات العربية مجتمعة ومع ذلك فهي -رغم ما بين دولها من حروب آخرها حربان عالميتان- فهمت أن حجوم العصر -الصين الولايات المتحدة الاتحاد السوفياتي سابقا ثم الهند والبرازيل إلخ..- تفرض عليهم أن يحققوا هذا الشرط للبقاء.
وما قد يدفع المرء إلى حنق لا يقدر عندما يرى طراطير العرب يتفاخر بعضهم على بعضهم بأتفه الانجازات التي هي للبهرج ولخداع النفس وليس لها أدنى دلالة حضارية لأن الجميع يعلم اليوم أن دخولها الخام مجموعة دون الشرط الأول (النظر وتطبيقاته) فضلا عن الشرط الثاني (العمل وتطبيقاته).
ثم يحدثونك عن الحوار الاستراتيجي بين زيد أو عمرو منهم مع حاميه الذي هو غني عنه لأن ما بيده ليس بيده بل هو تحت حمايته هو ما يظن نفسها صاحبه. وأكثر من ذلك تجد من بينهم من يتفرعن فيهدم حتى الوحدات الهشة لمناطق عربية متجانسة وهي خمسة: الهلال والخليج والقرنان والنيل والمغرب العربي.
والأدهى أن هذا التمزيق لم يكفهم: ففي كل بلد عربي تجد نخبه بأصنافها الخمسة (السياسية والمعرفية والاقتصادية والفنية والرؤيوية) منقسمة إلى نوعين من المليشيات التقليدي منها يغلب عليه السيف والحداثي يغلب عليه القلم لكنهما كلاهما مليشيا يوظفها الأعداء لمزيد التمزيق لحد ما دون القبيلة.
والله لا يقبل الدعاء ممن لا يعمل بالتذكير الأخير أو الرسالة الخاتمة: لذلك فلا شيء يستفزني أكثر من سفهاء الدعاة الذين يؤيدون الطغاة ثم يرفعون الأكف للدعاء على الأعداء وهم مع طغاتهم أعدى أعداء الإسلام لأنه هم الذين عطلوا الدستورين وفرضوا التربية والحكم المفسدين لمعاني الإنسانية.
لست ناقصا أعداء من بين الصفين صفي المليشيات التي تدعي الأصالة والتي تدعي الحداثة. لكني لا أبالي بموقفهم مني. ما يعنيني هو أن يفهم الشباب بجنسيه أن ثورته إذا كانوا بحق مؤمنين بما طلبوا في الموجة الأولى ينبغي أن تتجاوز المباشر إلى غير المباشر من الشروط: لا حرية من دون شروط السيادة.
ولا سيادة للأقزام بين العماليق. لذلك فالشباب ينبغي أن يكون له نفس الطموح الذي كان لأجداده في النشأة الاولى: لا يمكن للاستئناف أن ينجح إذا لم يكن بمقياس النشأة الأولى. وهذا هو معنى الاستئناف. هدف الثورة تحقيق الحرية والكرامة وشرطهما هو إطلاق الدستورين والحجم المناسب للعصر.
وليس ذلك بالأمر الذي يتجاوز مستطاع شباب الأمة بجنسيه: فمثلهم من دون ما يوفره العصر لهم من تكوين وأدوات استطاعوا وهم قلة أن يغيروا تاريخ العالم فيحرروا الإقليم وما حوله مما كان يحول دون الحرية الروحية (الكنسية) والحرية السياسية (الحق الإلهي): الثورة استعادة هذين الحريتين بشروطهما.