الجبهة الشعبية.. تأميم الحقيقة العامة والوصاية عليها
نور الدين الختروشي
شرارة الثورة التي غيرت مسار المنطقة، وهدت بتموجها الخارجي عروشا، وأسقطت انظمة ،وفرضت على العرب سؤال الديمقراطية انطلقت بحرق جسد شاب مهدود بالبحث عن مورد رزق يحفظ كرامته.
مضت سبع سنوات وسؤال الكرامة معلق على شرائط عجز ثمانية حكومات تداولت على ادارة الشأن العام دون ان تنجز الادنى من مطلوب العدالة، والاستجابة لانتظارات المحرومين والمهمشين الذين اشعلوا نار الثورة، واسقطوا نظام البوليس والمافيا.
الانتباه لهذه الخلاصة المتداولة والمعروفة لدى القاصي والداني استدعتها حاسة التآمر في الأيام الاخيره لتوظيفها في حلقة جديدة من مسلسل التآمر على منجز الثورة ذاتها، وتخريب مسارها السياسي.
فشل حكومة الشاهد في ان تعطي رسائل ايجابية للرأي العام بعد المصادقة على ميزانيتها، وحلولها الترقيعية لاختلال وعجز موازين الخزينة العامة، مهدت لحالة أستياء وغضب عام.
كان منتظرا بل ومطلوبا من الفاعلين االاجتماعيين والسياسيين ان يصرّفوا حالة الاستياء او الرفض اما بالتهدئة وتوضيح سياقات الخيارات الرسمية، او بتأطير الغضب والتعبير عنه سلميا بأدوات النضال المدني المعروفة في الانظمة الديمقراطية.
الجبهة الشعبية وهي اكبر كيان تنظيمي لليسار التونسي، يبدو انها قد سبق ان خططت لاستراتيجية مغايرة للمنتظر من فرضية الاستياء الشعبي من الزيادات التي استتبعت التصويت على بعض فصول الميزانية، خاصة وقد تبين للرأي العام ان الجبهة الشعبية صوتت دون تحفظ عليها في البرلمان، بل ان النائب منجي الرحوي وهو أحد رموزها هو من ترأس لجنة المالية التي ناقشت مشروع الحكومة واجازت عرضه على الجلسه العامة.
المشهد في الحالة ومن هذه الزاوية يبدو سرياليا وعبثيا يحيل على عقل سياسي طفولي وعدمي، ولكن الاقتراب اكثر من الصورة قد يكشف وجها اخر اخطر من عبثية خطاب واداء يسارية تونسية لم تثبت بعد الثورة على الاقل قدرة على الانسجام مع ذاتها الايديولوجية ولا ولاءا للثورة ولا انحيازا للديمقراطية.
لنتذكر ان اولا صدمة تونس الجديدة في تحالف الجبهة الشعبية اليسارية مع نداء تونس في ما سمي باعتصام الرحيل بباردو ذات صيف من سنة 2013 والذي اجتمع على أستدعاء نموذج السيسي الدموي في مصر للاطاحة بحكومة الترويكا. يومها سقط حمه الهمامي في امتحان الولاء للثورة والحرية، وتبين ان حسابات الايديولوجيا والتي يكثفها العداء الطفولي الساذج للاسلاميين هو قاعدة تفكير جبهته، ومبرر وجودها، ومؤشر موقفها من اليوميات. يومها شهدنا وشهد الرأي العام على أغتيال تاريخي قبيح اقترفه يسار الجبهة لعنوان العدالة الذي يكثف مضامين هويته التاريخية، خدمة لعنوان هووي ثقافوي ينتمي الصراع فيه وحوله الى زمن تحارب السرديات الايديولوجية الشمولية والذي خرج تاريخيا من مدار تشكيل الوعي العام بالموجود الثقافي والحضاري والمأمول السياسي والاجتماعي.
المناورة على جوهر العدالة الاجتماعية في مرجعية اليسار لحساب السؤال الثقافي المتصل بعنوان الهوية الوطنية لا يعكس فقط انحرافا بالوعي وتزييفا للمعنى في حالة يسار الجبهة الشعبية، بل يعكس الحقيقة الستالينية الدموية المتأصلة في ثقافة رموزه وفاعليه، وما انحياز الجبهة خارجيا لنظام البراميل المتفجرة في دمشق، وسبسي الدبابة في مصر، الا تعبيرا عن هوية سياسية ما قبل مدنية جوهرها تأميم الحقيقة العامة والوصاية عليها وادارة الاختلاف حولها بالعنف الرمزي والمادي.
يسار حمة الهمامي في تونس من هذه الزاوية هو النقيض الايديولوجي والسياسي للزمن الديمقراطي الذي دشنته عربيا ثورة الحرية والكرامة بتونس، وقراءة وتحليل مواقفه من يوميات المسار السياسي بعد الثورة لا تفهم خارج نقطة قاعدة التناقض في الثقافة السياسية لليسار الستاليني التقلدي مع الدمقراطية، وكانه لم يسمع فضلا على ان لم يستفيد من ارث المراجعات الاممية لسرديات وتجارب بقية البسار في العالم القريب منا والبعيد.
ما نريد التشديد عليه هنا هو أداء الجبهة الشعبية منذ نتائج انتخابات التأسيسي تحرك على خطوط خيانة منجز الثورة ذاتها لا يفسره اخطاءا تقديرية من يوميات الحالة التونسية، بل تقعده وتشرعنه بنية ذهنية تشكلت في قالب ايديولوجي وعقائدي أصولي ومانوي يدعي احتكار شرعية امتلاك الحقيقة العامة ومشروعية تصريفها السياسي. فيسار الجبهة بهذا الافق التحليلي هو النقيض الناجز لزمن الثورات العربية. ومن الطبيعي في هذه الحالة ان يتقاطع مع الانظمة العربية التي تحزمت لوأد اشواق شعوبنا في التحرر السياسي، بل لم يكن غريبا ولا مستغربا في هذا السياق، ان تتحول جبهة حمه الهمامي الى اداة لتنفيذ اجندة تلك الانظمة. فهي اليوم تعمل بوجه مكشوف في مربع المؤامرة على الثورات العربية بداعي تصفية عدوها النهضوي الخالد.
ما تشهده الاحياء الشعبية في العديد من الولايات هذه الايام من اعمال تخريب ونهب واجرام منظم، تتم بغطاء سياسي من الجبهة الشعبية، وسيكون من الخطأ السياسي الفاضح ان تتعامل معهم تونس الجديدة على ارضية الاختلاف حول الخيارات العامة او السياسات الحكومية، فالمطلوب بداعي المصلحة الوطنية رفع غطاءهم المثقوب على جريمة التآمر على وحدة البلاد واستقرارها الهش في لحظة بينية هادرة تتحسس فيها طريقها نحو ورشة الاصلاح الشامل لما افسدته عقود دولة القمع العاري.
سياق الجريمة المنظمة التي تشرف عليها الجبهة الشعبية اليوم لا يمكن عزله عن محاولات مستمرة وممنهجة من منظومة الافساد من بقايا منظومة المخلوع الموزعة بين السوق واجهزة الدولة ووسائل الاعلام في الداخل، والاطراف الاقليمية التي اعلنت عداءها المباشر للثورات العربية، وأحسب ان على كل المعنيين بالمصلحة الوطنية ان يضعوا اصابعهم مباشرة على موطن الداء وحقيقة غرف التآمر المفضوح على وحدة البلاد وامنها القومي. فالمعركة لا تتصل بتجاذب او بصراع ايديولوجي تقليدي بين يسار معاد للهوية واسلامي معادي للحداثة على ما تسوق الة الدعاية الجهنمية ليسار الجبهة، بل التحدي يتصل بمصير وطن تتلاعب به اياد عابثة ومرتزقة ومتاجره بمصيره.
على الدولة اولا ان لا تتردد اليوم في استعمال كل صلوحياتها الدستورية والقانونية لللكشف عمن يقف وراء عصابات التخريب الليلي، وعلى الاحزاب السياسية والمجتمع المدني والرأي العام ان يتحرك بكل المتاح الاعلامي والميداني لاسناد جهد الدولة في اخماد نيران الفتنه والغدر بتونس الجديدة. خاصة وان جبهة الهمامي تتحرك هذه المرة بعنوان اجتماعي معزولة عن حاضنة اتحاد الشغل، بعد ان تبرأت المنظمة الشغيلة من عصابات التخريب والنهب الليلي، وقد اثبت التاريخ السياسي الحديث في تونس ان المطلبية الاجتماعية اذا تخلف عنها اتحاد الشغل فانها اما مزايدة او مستحيلة.
تقديري ان اللحظة ليست لتقييم مشروعية المطلب الاجتماعي، بل للانتباه الى استراتيجية توظيف الاجتماعي في مؤامرة هدفها امن البلاد واستقرارها وسبيلها ونهجها افصح عنه بوضوح وقح النائب عن الجبهة الشعبية عدنان الحاجي هو اراقة الدم، فقد بشرنا ببرودة مجرمة ان عامنا الجديد سيكون عام الدم..
عطش يسار الجبهة الشعبية لدماء التونسيين اصبح معلنا في مجلس نواب الشعب.. فهل ننتظر لنعرف على اي من موائد الجريمة سيكرعون؟؟؟