من أوحال الحرير
محمد بن نصر
عندما سقطت أنظمة البؤس الاشتراكية هلّل الرأسماليون فرحين بانتصارهم الأيديولوجي وبعد ذهاب سكرة فرحهم تنبّهوا أنهم بسقوط هذه الأنظمة قد فتحوا على أنفسهم نار جهنم قائلين: ماذا سنفعل مع هذه الشعوب التي تحررت من القبضة الحديدية وستنطلق الآن زحفا نحو جنتنا الشمالية. فكان الجواب افتحوا الأبواب بقدر لحركة السلع والأشياء حتى ينغمسوا في ثقافة الإستهلاك الرأسمالية وضيقوها إلى الحد الأقصى على حركة البشر. تتالت بعد ذلك الإجراءات القانونية المتشددة لدخول الأجانب إلى “جنتهم”.
من ناحية أخرى ظن الأغبياء أنه بسقوط الأنظمة الشيوعية سقطت معها قضية العدالة الاجتماعية محور الاهتمام في النظرية الشيوعية. عزز هذا الإنطباع هرولة معظم اليساريين في بلادنا إلى التحالف مع النظام الديكتاتوري “العقلاني” مبررين ذلك بأولوية المعركة مع “الظلامية الدينية”. انتهى بهم الأمر بعد أن تمرّغوا في فضلات الرأسمالية إلى التلذذ بهذا الوضع الجديد وتحولوا إلي أقلام ناعقة دفاعا عن بارونات الفساد المالي والسياسي وانخراطا في سياسة تدمير ممنهجة للقيم والأخلاق.
حوصر الفقراء في بلدانهم وفقدوا نصيرهم، كنا نظن أنهم سيجدون من الإسلاميين الذين أعلنوا انحيازهم للمستضعفين سندا بديلا. خاب أملهم فقد أتى الإسلاميون أو لنقل أولو الشوكة منهم ببدعة جديدة عنوانها “الاندماج في الدولة” وأصبح همّهم أن يجدوا بعض الرضى من محترفي رذيلة التماهي مع الفساد من “أعدائهم القدامى” المتربعين على عرش الإعلام، فكلما زادوهم جلدا قالوا لهم صبرا فقد جئنا نتعلم منكم. غابت من قاموسهم ومن اهتمامهم هموم الفقراء والمساكين، فقد أصبح هؤلاء رعاعا بعد أن كانوا مستضعفين يقسمون بناصرهم.
وبالرغم من كل ذلك مازالت قضية العدالة الإجتماعية أم القضايا وستظل. منذ أن كتب روسو وقبل ماركس بعقود، كتابه أصل التفاوت الاجتماعي والعقل الإنساني يجتهد لتفادي زلزالها ولكنه آت لا محالة لأن النظام الرأسمالي المتحوش ولئن استطاع أن يعدّل من توحشه في مواطنه الأصلية حيث أقدم على الكثير من الإصلاحات الاجتماعية المرهونة في دوامها بمواصلة سياسة النهب الممنهجة لخيرات الشعوب الأخرى، قلت لأن النظام الرأسمالي مستمر في تأمين شروط قوته. فالغرب المتمدن مع نفسه لا يستطيع الاّ أن يكون متوحشا مع غيره. ولا فرق عندي بين الطيار العسكري الذي يلقي من علو شاهق القنابل المدمرة للحجر والشجر والبشر وبين ذلك الموظف السامي الذي يجلس في مكتب من مكاتب تلك المؤسسات المالية الدولية الناهبة ليرسم إستراتجية النهب فيسقط بكل قرار يصدره آلاف بل ملايين الضحايا. سيلقي الفقراء بأنفسهم في البحر ليضحوا بحياتهم من أجل حياتهم وسيتركونهم يغرقون وهم على نجاتهم قادرون. سيتلاعب بقضيتهم المتلاعبون ولكن إلى حين وقد تخدرهم لبعض الوقت خطابات النعيم المؤجل ولكن ثورتهم قادمة لا محالة.