إحيائيات ذكرى المولد النبوي الشريف
بحري العرفاوي
تعرف هذه السنوات اتساعا لا مثيل له في القنوات ولدى الأحزاب والجمعيات والإذاعات، على المستوى الشعبي وعلى المستوى الرسمي، هذه الإحيائيات وإن اختلفت في الأساليب فإنها تشترك في دلالة واحدة وهي اشتراك الجميع في شعور بالانتماء إلى أمة أسس ملامحها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وستظل بحاجة دائمة للاستفادة من سيرته كرسول وكبشر… مع دعوتنا إلى التحرر من الأساليب الفولكلورية الخرافية في التعاطي مع شخصية وسيرة رسولنا الكريم.
ثمة مبررات كثيرة للربط بين عصرنا وقضايانا الحديثة وبين السيرة النبوية
• أننا كمسلمين نعتقد بأن السنة النبوية هي المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن وأن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم هي مصدر استلهام فكري وقيمي وأخلاقي فالرسول ص مَثَّل أرقى ترجمة بشرية عملية للقرآن وهو التمثل الأكمل لمعاني الوحي حتى قالت فيه زوجته عائشة “كان كأنه القرآن يمشي” وقد أمرنا الله باتباعه “لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ” “وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا”.
• إننا كمسلمين حتى وإن كنا منفتحين على التجارب البشرية نستفيد ونقتبس منها فإن علينا أن نوطن أنفسنا على منهج مستقل ينسجم مع عقيدتنا بما هي مرجع تفكيرنا وأخلاقنا وسلوكنا، إن القرآن والسنة يمثلان فيصلا في خلافاتنا إذا ما اختلطت علينا السبل والمفاهيم ونحن بصدد مسار الثورة التونسية.
شخصية الرسول ص كانت خميرة الثورة: لقد كان أشبه ما يكون بالفطرة السوية التي أفلتت من التشوّه بفعل الزمن فيها فطرةَ الله التي فطر الناس عليها منذ أن خلق آدم “فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي”، “صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ” كان محمد بن عبد الله أقرب إلى صورة الإنسان السوي في توازن شخصيته في مختلف أبعادها التكوينية: العقل والروح والجسد. وقد كان مشهودا له في قومه بالأمانة والصدق ورجاحة العقل ورفعة الأخلاق ولذلك اصطفاه الله ليكون رسوله إلى العالمين وليأتمنه على أكبر مشروع حضاري: مشروع بناء الحضارة الكونية الإنسانية.
كان رسول الرحمة ورسول البناء ورسول الإحياء ورسول “الثورة” بالتعبير المعاصر
وقد تأسست “ثورته” على أهداف ووسائل ومرجعية.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدرك عمق رسالته التاريخية والحضارية والإنسانية إنه لم يأت ليغير “شيئا” من موضع إلى آخر إنما جاء ليغير منهجا بمنهج ومسارا بمسار وواقعا بواقع وهذا يقتضي إحداث التغيير في أعماق الذوات البشرية في صبر وترفق وتلطف ورحمة وهو ما عبر عنه الصحابة بالقول “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت الأرقم يُفرغنا ويملأنا” كان يُفرغهم مما ترسب فيهم لعقود ولما توَارثُوه عن قرون من قيم ومفاهيم وتصورات وعادات ظلت تمثل معيقا لبناء علاقات سوية مع مختلف عناصر الوجود سواء في العلاقة بالكائنات غير العاقلة أو في العلاقات البشرية وهو ما لخصه جعفر بن أبي طالب أمام النجاشي ملك الحبشة: “كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف…”. تلك الممارسات لم تنشأ عن قرار فتسهل إزالتها بقرار وإنما كانت تعبيرا عن ذوات وعن ترسبات من الماضي قديمة.
كان الرسول ص يصطبر في مقاومة تلك الترسبات وهي مؤذية بالتأكيد للطبيعة البشرية السوية فلم ييأس من مجتمعه ولم يتعال عليه ولم يستقذره ولم يلعنه ولنا في الأمثلة التالية أدلة عملية بالغة:
أ. الأعرابي الذي بال في المسجد فثار عليه الناس ليقعوا به فقال لهم رسول الله ص “دعوه وأهْريقوا على بوله ذَنُوبًا من ماء أو سًجْلا من ماء فإنما بُعثتم مُيسرين ولم تُبعثوا مُعسرين”
مثل ذاك السلوك إنما كان صادرا عن شخصية ليس لديها مفهوم لا للتمدن ولا لقداسة أماكن العبادة… وإنما كان موقف الرسول تأكيد لمبدإ الإسلام ومقصده الثابت وهو كرامة الإنسان، تقديم حرمة الإنسان على حرمة المكان وهو ما يؤكده الحديث “لهدم الكعبة سبعين مرة أهون على الله من قتل مسلم”.. فالإنسان هو القادر على إعادة بناء المكان وحماية حرمته والمكان لا يقدر حتى على حماية نفسه… ولذلك لم يكن ثمة من خطر على الدول والأمم في اهتدام مبانيها إنما كان الخطر في اهتدام العزائم والإرادات وفي إفراغ الناس من عزائمهم وشجاعتهم واستعداداتهم الجهادية.
ب. قصة الرجل الذي جاء للرسول ص يستأذنه في الزنا قائلا: إني أحب الزنا فغضب الحاضرون وهموا به ولكن الرسول ص أدناه منه وخاطب فيه فطرته… حتى خرج الرجل وهو يقول: لقد جئت إلى رسول الله وليس لي شيء أحبَّ من الزنا فخرجت من عنده وليس لي شيء أبغضَ منه… يعرف الرسول ص أن الكثير من الجرائم والاعتداءات من زنا وتحرش واغتصاب إنما مصدرها فوضى الغرائز حين تطغى على العقل وحين تكسر ضوابط القيم وتحول صاحبها إلى كائن شهواني تؤزه الدوافع الجسدانية أزا… لم يكن المنهج العقابي مربيا للشعوب ولا منتجا للأخلاق قدرَ ما كان مُدمّرا للذوات ومولدا للنوازع الثأرية.
ج. قصة الرجل الذي جاء مسجد المدينة عازما على قتل الرسول ص وانتهى إلى مؤمن وصاحب.
كان الرسول ص يعرف أن الرجل ذاك إنما جاء عازما على قتل صورة كريهة عن محمد سوّقها خصومه ورَوّجُوا لها وكان يعرف أن الحل ليس في قتل الرجل وإنما في قتل تلك الصورة المشوهة بتقديم الصورة الحقيقية عن الإسلام ورسوله… إنه لأيسر على أي مقتدر تصفية مئات وآلاف الخصوم من تحويل خصم واحد إلى صديق أو شريك.
إن الثورات الحقيقية هي التي تحافظ على أعلى قدر من المنسوب البشري حين تحوّل الناس إلى معتنقي مشروع الثورة يتبنونه ويدافعون عنه ويضحون من أجله… إن حماسة الثورة ليس في مدى القدرة على تصفية المخالفين والخصوم وإنما في مدى القدرة على تحويل أكبر عدد من الخصوم إلى شركاء في مشروع الثورة.
د. تعيين خالد بن الوليد قائدا لجيش المسلمين وبأرقى وسام “سيف الله المسلول”.. لم يكن من السهل نسيان وقع هزيمة أُحُد على المسلمين ولم يكن يسيرا على المسلمين تقبلُ خالد على رأس جيشهم وهو الذي هزمهم في معركة قُتل فيها أحبّ أحباب رسول الله “حمزة”… يحتاج مثل ذاك القرار صبرا واصطبارا ومغالبة للنفس وللنوازع الثأرية كما يحتاج حكمة وبُعد نظر، بمثل ذاك القرار يُجرد الرسول ص تاريخ الشرك من رمزية كبيرة فلا يعود للمشركين من دافع للإعتداد بخالد بن الوليد كصانع نصرهم على المسلمين في أُحد.
منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في الإصلاح تأسس على قاعدة ملخصها أن الثورة بما هي تمرد على الواقع المشوه في أبعاده الاجتماعية والسياسية والأخلاقية لابد أن تبدأ من تشوهات الذات ومما تلبسها من عقد نفسية من تكبر وحقد وأنانية ولذلك لابد أن يكون ممثلو مشروع الثورة متمثلين لقيمها ومبادئها في شخصياتهم وفي سلوكهم فيكونون على درجة من التسامح والتحمل يتجاوزون عن الإساءات والأخطاء ما لم تمثل تهديدا لأهداف الثورة. وقد كان الرسول ص مثالا في التسامح وفي تحمل الأذى وفي الرحمة وفي حب الخير حتى لمن أساء إليه.. حين ذهب إلى الطائف يريد إنقاذهم من شقاء الشرك حرضوا عليه الأطفال يقذفونه بالحجارة ويسخرون منه، لم ينقلب عليهم ولم يدافع عن نفسه بمثل طريقتهم وإنما كان يتوقى من حجاراتهم حتى أدميت قدماه وحين تفرغ إلى نفسه ناجى ربه ولم يدع عليهم إنما قال “اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون”.
لكل ثورة رموزها يتمثلون مبادئها ويكونون علاماتٍ لها يجد الناس فيهم أسوة ويجدون معهم أمانا ويجدون فيهم أملا يتواصون معهم بغير تكلف ولا تعقيدات “أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خُلقا الموطأون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون ولا خير في من لا يألف ولا يؤلف”.
كما تحتاج الثورات رجالا ونساء مبدئيين ثابتين لا يتلاعبون بمبادئهم ولا ينازلون عن مقاصدهم الكبرى مجاملة ومسايرة للرداءة وفي حديث رسولنا الكريم: “لا يكوننّ أحدُكم إمعةً يقول إذا أحسن الناس أحسنتُ وإذا أساء الناس أسأتُ ولكن وطنوا أنفسكم على الإيمان إذا أحسن الناس أن تحسنوا وإذا أساء الناس أن تُحسنوا”.