قتَلَتْنا الردّة يا مولاي..
زهير إسماعيل
عُرف عن التيار الإسلامي في الحركة الطلابيّة، في تونس، نقده المبكّر للفكر الإخواني وتجربته في المشرق. وبقدر ما كانت عبارة “خوانجي” تثير انزعاجا عند الاسلاميين في “الحركة الشعبيّة”، كان نعت “الإخواني” الصادر عن طلبة اليسار يصل عند الطلبة الإسلاميين إلى درجة الإهانة. وأحيانا كان المناضل الإسلامي يمارس ضربا من “الاستشراق الداخلي” تُجاه الإسلامي الآخر فيتّهمه بأنْ ما زال فيه شيء من “الإخوانيّة”.
ومن هذه الزاوية، بنت تجربة الإسلاميين التقدّميين جانبا من “شخصيّتها” الفكريّة على نقد الثقافة الإخوانيّة في الاتجاه الإسلامي. رغم أنّ الاتجاه الإسلامي في الحركة الطلابيّة (79 ـ 81) كان سبق إلى نقد الإخوان ونهجهم التربوي ومنهجهم في التغيير.
وكان لليسار الطلاّبي تأثير كبير على التيّار الإسلامي تجلّى في الانتباه إلى “أولويّة المسألة الفكريّة” عند الإسلاميين التقدّميّة وفي “البعد الكفاحي” و”الانحياز إلى “الطبقات الفقيرة”، عند الاتجاه الإسلامي” (جبل اليتامى الأحمر): سطر للشاعر البحري العرفاوي).
وكانت الرغبة في تخطّي “الإخوانيّة” عند هؤلاء والحرص على صفة “التقدّميّة” عند أولائك سببا في تطوير التيّار الإسلامي في علاقته بمرجعيّته الإسلاميّة وبالنص القرآني فهما وتأويلا. وكانت “الروح الثوريّة” و”القراءة العقلانيّة” أهمّ ما يحدوه من طموح، حتّى بدا أقرب إلى تيّار النهضة والإصلاح منه إلى تيّار الإسلام السياسي.
كان للثورة الإيرانيّة كان تأثير في هذا الاتجاه، وكان غضّ الطرف عن “خطابها الشريعي المذهبي واضحا”. ويذكر كثيرون الصدمة التي عرفوها، بعد قراءة كتاب “الحكومة الإسلاميّة” للإمام الخميني. ولكن كان الهروب إلى “لا شرقيّة ولا غربيّة”، والتركيز على “نصرة المستضعفين في العالم” (يا مستضعفي العالم اتحدوا).
قبل الثورة الإيرانيّة، كانت العلاقة وطيدة بين الإسلام السياسي “السنّي” متمثّلا في الإخوان والإسلام السياسي “الشيعي متمثلا في حزب الدعوة ومدرسة محمد باقر الصدر. ومع الثورة كان هناك انطباع بأنّ “الخمينيّة” و”خطّ الإمام” امتداد لتيّار الإسلام السياسي في الفضاءين السنّي والشيعي، وأنّ الثورة الإسلاميّة في إيران مرحلة جديدة يدشّن فيها الإسلام السياسي وصوله إلى السلطة. وكانت الثورة الإيرانيّة قبلة عديد المفكّرين في الغرب، أتوها يتساءلون عن هذا “النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون”.
كانت الثورة الإيرانيّة، أوّل صياغة سياسيّة عمليّة للإسلام من خارج دائرة الإسلام السعودي (الوهابيّة). ولعبت السعوديّة دورا كبيرا في منع “تصدير الثورة” وخروجها عن مجالها الإيراني، وكان العراق، وكانت حرب الثماني سنوات. وفي سياق هذه الحرب بدأت تتوضّح معالم الأصوليّتين “الوهابيّة” و”الخمينيّة”. كما بدأ يتوضّح اختلافهما عن تيّار الإسلام السياسي في الفضاءين السني والشيعي. فعملت السعوديّة على محاربة تيّار الإسلام السياسي الذي وقف إلى جانب صدّام حسين في حرب “تحرير”، وفي حرب 2003. وكان انحيازه فيها واضحا، وهو ما كان سببا في اتساع الهوّة بين الحركة الإسلاميّة العربيّة والثورة الإيرانيّة. وكان دور آل سعود في نسف التجربة الديمقراطيّة في الجزائر التي أتت بجبهة الإنقاذ إلى الحكم منذ الدور الأوّل في انتخابات جانفي 92 واضحا.
كذلك كان موقف الخمينيّة من الٍإسلام السياسي الشيعي متمثّلا في حزب الدعوة العراقي الذي استسلم للاستراتيجيا الإيرانيّة وصار، رغم الاختلاف الداخلي في الموقف من إيران، أداة إيرانيّة. واختارت الخمينيّة الصدام مع الإسلام السياسي الإيراني متمثّلا بالأساس في التيّار الإسلامي التقدّمي (مجاهدي خلق) والتيّار السياسي التنويري مع الشهيد علي شريعتي. وكان لهذين الرافدين دور متقدّم في الثورة وإسقاط الشاه. ولكن كان الصدام مع خطّ الإمام (توجد روايات مختلفة حول هذ الأمر)، وكان التهميش لخط علي شريعتي من قبل المعممين مع تدعّم نفوذهم وهيمنتهم على المشهد السياسي. ولعبت الحرب مع العراق (1981) دورا مهمّا، إذ قلبت الأولويات الإيرانيّة رأسا على عقب.
بعد 2011، تقاطعت الأصوليّتان في الخطاب الشريعي المذهبي وفي مناهضتهما لثورة المجال العربي، ووقوفهما إلى جانب الاستبداد (في مصر وسوريا وغيرهما). فمن يناهض الثورة في مصر لا يمكن أن يقف إلى جانبها في سورية، وإن أعلن خلاف ذلك. ومن يناهضها في سوريّة لا يمكن أن يقف إلى جانبها في مصر، وإن أوهم بخلاف ذلك.
نجحت الخمينيّة في جبّ “الإسلام السياسي الشيعي”، ولكنّ الوهابيّة فشلت في شطب “الإسلام السياسي السنّي”، رغم محاولاتها احتوائه، ولا سيما في سياق الخلاف الناصري الإخواني الذي كان من نتائجه هجرة القيادات الإخوانيّة إلى السعوديّة ودول الخليج أين “تسرّب” الخطاب الشريعي إلى جانب من خطاب الإسلام السياسي.
ولم يكن لهذا اللقاء تأثير بالغ على مسار الإسلام السياسي في بلوغ أعلى مراحله وهي مرحلة العدالة والتنمية. وكانت ثورة المجال العربي من أهمّ الشروط الدافعة لكي يبلغ الإسلام السياسي مستقرّه المرتبط بتأسيس الديمقراطيّة في المجال العربي. لأنّ تأسيس الديمقراطيّة علامة سياسيّة على بلوغ الإسلام السياسي هذه المرحلة وحلوله في هويّة أخرى (ديمقراطيّة، مواطنيّة…). والفشل في تأسيسها علامة عن عجزه عن بلوغ المرحلة المذكورة.
نتيجة هذه التحوّلات المهمّة، وفي مقدّمتها حدث الثورة، قام فرز على قاعدة الموقف من الثورة، ولم يكن مفاجئا أن تلتقي “الوهابيّة” و”الخمينية”، رغم ما بينهما من عداوة، ورغم “اختلاف” موقعهما من محاور الصراع، على مناهضة الثورة. كما لم يكن مفاجئا أن تقف تركيا (رغم علاقاتها الأطلسيّة) وقطر (رغم تبعيتها للاستراتيجيا الأمريكيّة) مع الثورة. فالأولى بلغ فيها الإسلام السياسي مرحلة العدالة والتنمية، والثانية تطوّرت “بداوتها النهضة” لكي تستقيم “وطنيّة عربيّة” (بعبارة الدكتور المنصف المرزوقي) لا قابليّة لها لكي تقف ضدّ “الحريّة والكرامة”. الوهابيّة والخمينيّة دون الإسلام السياسي ومتخلّفتان عنه، وعودتهما بخطابهما الشريعي الفقهي القاسي والغنوصي الخرافي علامة على أزمة عميقة في الفكر الإسلامي المعاصر.
كان هناك تناقضان: تناقض ثانوي وهّابي/خميني أرضيّته محاور الصراع التقليديّة، وتناقض أساسي ثورة/استبداد تلتقي فيه الخمينيّة والوهابيّة موضوعيّا في صف الاستبداد، رغم العداء. ويمثّل تعارض المقاومة والثورة في السياق السوري تفصيلا من هذا الأصل. وقد نجحا، كلّ من موقعه في تفكيك الإسلام السياسي وجبهته وعلاقته بالثورة. وما عرفته تركيا من محاولة انقلابيّة بمال خليجي ودعم لوجستي أمريكي، وما تعرفه قطر من حصار، وما تعرفه السعوديّة، إلاّ صورة من هذا التناقض الأساسي الذي ذكرنا.
هي جولة تنتصر فيها الثورة المضادّة، وتتفجّر فيها تناقضات قواها حول المغانم والمواقع في المشهد الجديد.
كان منطلقنا الحديث عن الإسلام السياسي، وعن الجهد التنويري الذي بذل وعن مسار التجديد الذي سلك، إلاّ أنّ ما حدث من انقسام داخل نخب الإسلام السياسي نفسه أحدث ردّة حقيقيّة عمّا تحقّق من تنوير وعقلنة، فمنهم من اكتشف “سنيّته” وارتدّ إلى خطاب “مذهبي عنصري” لا يختلف في شيء عن “الخمج الوهابي”، ومنهم من ارتدّ إلى خطاب عرفاني غنوصي و”مذهبيّة مضادّة”، ومنهم من اكتفى بالتحليل السياسي ومآلات الصراع واختيار الموقع الأنسب، مع تأسيس موقف جديد من الثورة ومحاولة مرحلتها بما ينسجم مع موقفه الداعم لإيران.
الوهابيّة والخمينيّة ردة فكريّة قبل أن تكونا مشروعين استبداديين، وقوّتين تلغيان ما تحقّق من تنوير ومحاولات في التجديد، وإن كانت محتشمة، في تحويل النصّ المؤسس إلى مفاهيم إنسانيّة تنسجم مع ما انتهى إليه الذكاء الإنساني والفكر الحديث من مشتركات في الحقوق والقيم والانتظام السياسي.
وإذا أخذنا بأهمّ منجزات الفكر الإنساني والقيم الحديثة، مع احترام خصوصيّتنا، فإنّنا لا نستطيع أن ندافع عن كثير ممّا في نصّنا المؤسس. فكيف بالوهابيّة والخمينيّة؟!!
ــــــــــــــــــ
• الوهابيّة (1745) والخمينيّة (1963) في الأصل حركتان إصلاحيّتان، ارتبطت الأولى بنشأة السعوديّة بعد تحالف ابن عبد الوهاب (ت 1791) مع محمد بن سعود (ت 1765) في الدرعيّة. وارتبطت الثانية بالثورة الإسلاميّة المظفّرة سنة 1979 على نظام الشاه محمد رضا بهلوي. وتعدّ من الناحية السياسيّة امتدادا لحركة مصدّق الوطنيّة التي تم الانقلاب عليها في 1953، بعد قرار تأميم البترول الإيراني.
الخمينيّة بنت نموذجها السياسي في سياق الثورة الإسلاميّة، وبقدر ما كانت نظريّة ولاية الفقيه سببا في تحريك الشارع المجبول على “الانتظار” مثّٰلت مع خطابها الشريعي المذهبي عائقا على الإصلاح والتجديد. وجسّدت الوهابيّة نموذجها في الدولة السعوديّة برعاية بريطانيّة.
كانت الحركتان الحل والمشكل في الآن نفسه بسبب خطابهما الشريعي القديم، وهو ما جعل منهما حالة متخلفة عن ظاهرة الإسلام السياسي. لذلك فإنّ السعوديّة وإيران تمثلان موضوعا لـ”ربيع سياسي حقيقي” يخرج التجربتين من الخطاب الشريعي والحكم المطلق. وتمثل الحركة الإصلاحية في إيران (الخروج من ولاية الفقيه إلى ولاية الشعب) وما يقوم به محمد بن سلمان (رغم تبعيته وتصهينه) لا يخرج عن هذا الاتجاه (هدم الوهابيّة والعائلة الموسعة كأساس للدولة) مقدّمات لإصلاح سياسي مطلوب.
العبرة بالنتائج و موازين القوي الإستراتيجية لا بالمقالت الجوفاء و الحديث الممل, إيران دولة إقليمية ذات نفوذ ووزن دولي و قوة إقتصادية و عسكرية مهمة, أما أشباه المفكرين فاستمروا في الدجل و الأحاديث الجوفاء عن المواطنة و الديمقراطية و الحداثة و الإسلام السياسي و غير السياسي التي سوف تؤبد تخلفكم و تبقيكم مجرد قوم تبع,