مقالات

الممارسة الحزبية في تونس: جغرافيا السياسة ومناطق الإيديولوجيا

محمد المولدي الداودي

جمهوريّة بوجدان قبلي وحزبيّة بوجدان جهوي
قراءة في مفهوم الانتماء الوطني
رفع شعار “ديقاج” من أمام مقرّ إذاعة محليّة بجهة المنستير في وجه الرئيس السابق للجمهوريّة التونسيّة المنصف المرزوقي ومنع جمعيّة “الدعوة والإصلاح” من إقامة فعاليات نشاطها بجهة سليانة بعد ضغوطات من جهات حزبيّة ونقابيّة كلّها علامات تؤكّد أنّ كثيرا من مكتسبات الدولة الوطنيّة الحديثة ماتزال مجرّد شعارات سياسيّة فالعمق الفاعل في كيان “الجمهوريّة” التونسيّة هو عمق جهوي وعروشي وقبليّ ولم تترسّخ بعد مبادئ المواطنة والجمهوريّة في تربة الفعل السياسي التونسي وفي دولة الاستقلال الحديثة.
شعار الوحدة الوطنيّة في ظلّ النظام الجمهوري كان إلى حدّ ما معبّرا عن وحدة ترابيّة لم تبلغ بعد معاني الوحدة الوجدانيّة والنفسيّة التي تؤكّد عمق الترابط بين مكوّنات المجتمع التونسي وفئاته وجهاته ضمن المدلول الوطني وفي التاريخ التونسي أحداث كثيرة عرفتها جهات داخليّة أشارت إلى ضعف المشاعر الوطنيّة الجامعة ومنها أحداث قفصة 1980.
الانتماء الوطني قد يحمل مدلولات متباينة قد تبلغ أحيانا حدّ التناقض فأغلب مواطني المناطق الداخليّة والجنوب يعرّفون عبارة “الانتماء” ضمن أفق الوجود الجغرافي أو الترابي والوطن بهذا المعنى “جغرافيا” للسكن والإقامة منزوعة من مقوّمات الشعور بالحق والعدل والكرامة والمواطنة.. و”الانتماء” في بعض المناطق محمّل بمحامل تنمويّة تتجسّد في أبعاد تربويّة وصحيّة وسياحيّة وثقافيّة..
“الانتماء الوطني” ليس مشتركا بين التونسيين وهو من العبارات الأضداد التي تحمل المعنى ونقيضه ولذلك استدعى التونسي في ظلّ هذا الخواء الوجداني المنشدّ إلى “وطنيّة زائفة” كل محاور الانتماءات الأخرى كالانتماء الأسري والعروشي والقبلي والجهوي وأضحت هذه المحاور بدائل مفترضة للوطن كلّما تقلّصت معالم حضور الدولة بما هي سلطة ضاغطة وضامنة للوحدة ضمانا سلطويّا…
بعيد الثورة عادت المسألة “الوطنيّة” إلى واجهة الصراع المجتمعي ضمن تناظرات بعضها عبّر عنها الاختلاف الإيديولوجي والفكري حول مسألة “الهويّة” وتحوّل هذا الاختلاف في الرؤى والتصوّرات إلى صراع دمويّ قاتل استهدف فكرة الدولة الوطنيّة برمّتها وبعضها عبّر عنه الاختلاف السياسي المشحون بأبعاد جهويّة فقد أكّدت انتخابات 2011 ومن بعدها انتخابات 2014 توزّعا جهويّا للخارطة السياسيّة وتبايناتها حزبيّا وكأنّ الجغرافيا الانتخابيّة اختزلت إلى حدّ كبير مراحل تاريخيّة شكّلت الوجدان الوطني والمخيال الشعبي العام ضمن حدود تلك العلاقة بين المواطن الفرد والدولة والسلطة وكأنّ نتائج الانتخابات سنتي 2011 و2014 أعادت رسم العلاقة بين السياسي والجغرافي والحزبي والجهوي والوطني والقبلي..
كانت ثورة علي بن غذاهم سنة 1864 العلامة الأولى على حضور هذا التداخل العجيب بين عناصر القبليّة والجهويّة ومسألة السلطة والثورة وأعادت ثورة 2011 نفس مسارات التاريخ ونتائجه سياسيا وجغرافيّا لقد كانت الثورة أو الغضب الشعبي في المناطق الداخليّة والجنوب شكلا من أشكال تحسين شروط “التفاوض” الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لا غير دون أن تسقط حتميّات الدولة التونسيّة في السلطة والحكم..
للدولة التونسيّة الحديثة حتميّات وقوانين رسّختها حقائق التاريخ وأكّدها الرئيس الحالي للبلاد التونسيّة الباجي قايد السبسبي في خطابه بقصر هلال في مارس 2013 حين أشار إلى أكثر من 7000 من الحاضرين في الاحتفاليّة بأنّهم “ملاّكة” وهي العبارة التي تخفي معان كثيرة تتعلّق بالدولة والحكم والسلطة والنفوذ المالي والإداري والسياسي.
لم تسقط الثورة التونسيّة النظام السياسي بما هو آليّة اشتغال إداري ومنهج للحكم وإنّما أسقطت كثيرا من أوهام الدولة التونسية الوطنيّة التي طالما تغنى بها زعماء الدولة الحديثة والآلة الدّعائيّة التي رسّخت في أذهان النّاس هذه الخرافة على مدى ستّين عاما..
لم تكن عبارات “الدولة الوطنيّة” أو “الوحدة الوطنيّة” أو “الأمّة التونسيّة” أو “القوميّة التونسيّة” متجانسة مع بناء الوعي الوطني وإنّما كانت نشازا وتجاوزا مدلوليا لما كان يعيشه المجتمع التونسي حقّا منذ بدايات دولة الاستقلال..
لم تتمكّن سياسات بورقيبة من محو الذاكرة القبليّة أو العروشيّة التي كوّنت البعد الوجداني للمواطن التونسي الذي ظلّ منشدّا في محاور انتمائه للعرش أو القبيلة.. العرش الذي يمثّل في وعي المواطن التونسي العلامة الأولى للانتماء في مدلوله الدموي والجغرافي.. وكثيرا ما يعرّف هذا المواطن بانتماءاته العروشيّة التي يحملها معها كيانا وجدانيّا في حلّه وترحاله..
العمق الوجداني والنفسي للمواطن التونسي عمق قبليّ وعروشيّ ولم تستطع دولة الاستقلال مغالبة هذه النزعة والانتصار عليها وإنّما أكّدت في مسارات السياسة التونسيّة تحوّلا غريبا في مدلول “الانتماء” جمع بين العروشيّة والجهويّة..
كان بورقيبة مدركا لهذا التداخل بين العامل الجهوي والعامل العروشي باعتبارهما مكوّنين أساسيين من مكوّنات “وجدان الانتماء” ولكنّ بورقيبة حوّلهما إلى عنصرين من عناصر العمل التنموي والسياسي بل إنّ الخيارات الاقتصادية والسياسية الكبرى لدولة الاستقلال عمّقت هذا التوجّه وأكّدت هذه الرؤية التي أنتجت تفاوتا جهويّا وتنمويّا بيّنا..
مع ضعف سطوة الدولة ومؤسساتها الأمنيّة بعيد الثورة استعاد المواطن الحاضنة الجهويّة والقبليّة وحوّل البعض من السياسيين هذا البعد الجهوي والقبلي إلى عنصر استقطاب سياسي وشعار من شعارات الخطاب الدعائي ثمّ تحوّلت بعض الجهات والمكوّنات الاجتماعيّة إلى مناطق نفوذ سياسي وحزبي وسعت بعض الأحزاب إلى ترسيخ “أدبيّات المظلوميّة” لخلق وجدان رافض لمكوّن شعبي أو سياسي أو حزبي منافس وهذا ما يبدو جليّا في الحديث عن أحداث “الرشّ” في جهة سليانة..
ما نراه خطيرا في الحدثين (المنستير وسليانة) هو تعميق الصلة بين الحزبي والجهوي أو الإيديولوجي والجهوي على نحو تتحوّل فيه الخارطة السياسية إلى شكل من أشكال الانتماء الجغرافي المضعف لحضور الدولة بما هي نظام سياسي وكيان شعبي وجهاز إداري يضمن الوحدة الوطنيّة بعيدا عن التباينات الحزبيّة والتناقضات الإيديولجيّة.
في أفق 2018 وبعد مائة سنة من التحوّلات الجغرافيّة والسياسيّة الكبرى وفي خضمّ رغبة الانفصال التي اجتاحت بلدانا كثيرة يظلّ العمق القبلي والجهوي الساكن في الوجدان التونسي فاعلا ومؤثّرا تنمويّا وسياسيّا ومحدّدا للمسارات الكبرى للدولة وخياراتها ومعبّرا عن تلك التناظرات والتناقضات التي رسمت جغرافيا الوطن ولوّنتها بألوان السياسة والقبيلة.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock