على قلق… على أملٍ
زهير إسماعيل
الأفكار تتطوّر في تفاعلها مع المستجدّات ومع عناصر الواقع المتحوّلة، ولكنّها في الآن نفسه تؤثّر في هذا الواقع من خلال قوّة حضورها عند من يحملها ويؤمن بها. وهو ما يعني أنّٰ لها قدرا من الثبات والوضوح. فتفاعلها مع المستجدّات وتحولاتها تحت تأثير الواقع لا يتناقض مع ثباتها النسبي وتأثيرها الفعلي فيه.
من هذه الأفكار (وأعني المفاهيم) فكرة الشعب والجماهير والحشود والناس، وعلاقتها بهذا الواقع وتغييره.
فكرة الشعب، أقرب إلى العقل الجمعي والرأي العام والمعنى المرجعي، وفكرة الجماهير أقرب إلى الإرادة العامة والفعل الجماعي والحركة الميدانيّة. والحشود أقرب إلى مدى الحركة الاجتماعيّة وامتدادها الأفقي، والأفكار الثلاثة غير مستقرّة في وعي نخبنا ومثقفينا وصنّاع الرأي بيننا.
عند حالات اليأس والإحباط وتفاقم الأزمات، ونعيش اليوم ذروتها لاجتماع كلّ أسبابها، تكاد تموت هذه الأفكار حتى يصبح الحديث عن الشعب حالة شعبويّة والحديث عن الجماهير نوبة افتراضيّة، والحديث عن الحشود رغبات تشاركيّة. ولكن عندما تحتدّ الاحتجاجات وتتصاعد وتمتدّٰ أفقيّا تُستعاد هذه العبارات ويكثر دورانها في كلام الساسة والنخبة والإعلاميين، ويكثر المستشرفون، وتزدحم صفحات المواقع الاجتماعيّٰة مذكّرةً بنصوص تنبّأت بالحدث قبل وقوعه ويتضاعف المؤمنون بالجماهير.
والمفارق في الأمر أنّٰ أكثر “المحللين” و”الساسة” و”القادة” جلداً للشعب وهجاءً للجماهير وتشفّيا في الحشود، في فترات الجزر، هم الأسبق إلى مدحها وتعظيمها وادّعاء تأسيس فعلها.
قبل هروب بن علي، بلغ اليأس أشدّه، وكانت الثورة عبارة قد مضت عقود طويلة على انسحابها من الاستعمال، وسقطت بلا رجعة من أفواه المثقفين والفنانين والمناضلين، رغم ما اجتمع من شروطها. وأذكر ليلة هروبه ما كان من تضارب في المواقف، على الفايس بوك، حول مستقبل البلاد ومصير النظام، وكان النقاش على أشدّه، ومن الغد، وبمجرّد ظهور نبأ الهروب حتّى سارع كثيرون إلى حذف ما ارتأوا من مواقف، (يومها كان تغيير البوست جزئيّا غير متاح على الفايس بوك). وهو ممّا لا يُنسى بسهولة.
قد يضطرّ كثيرون إلى حذف كثير ممّا كتبوا، في علاقتهم بالشعب والجماهير والحشود والثورة… في بلدنا هذا، وعامنا هذا، وأزمتنا هذه.
لا ندّٰعي استشرافا، ولا معرفة بحركة الجموع، ولكن ما يجتمع من شروط مختلفة يجعل من وضعنا هذا غير قابل للاستمرار طويلا. يَسْنُدُ هذا ما شهدته بلادنا من منعرجات تكاد تكون دوريّة على مدى ستّة عقود، وخصوصيّة شعبنا، وحقيقة الانقسام الاجتماعي الذي نعيش، وحدث الثورة الذي هزّنا وهزّ الدنيا.