عبد اللّطيف درباله
امرأة تونسيّة شابّة وجميلة.. ربّما في الأربعين من عمرها.. متزوّجة.. ولها ابنان اثنان تتراوح أعمارهما بين 7 و10 سنوات.. ترقد الآن بين الحياة والموت في قسم الانعاش بمستشفى فرنسي معروف.. إثر عمليّة جراحيّة معقدة وخطيرة دامت 13 ساعة متواصلة.. لاستئصال أوراما سرطانيّة انتشرت في منطقة من جسمها..
المرأة التي تعيش بتونس.. وبرغم صغر سنّها فوجئت بإصابتها بنوع خطير من السرطان.. وبعد تشخيص حالتها أخبرها الأطبّاء التونسيّون بأنّ إمكانيّة وقدرات علاج نوع المرض الخبيث الذي تعانيه، نسبته محدودة جدّا في بلادنا.. وأنّه يوجد في المقابل مستشفى فرنسي مختصّ ومتطوّر في علاج السرطان يؤمّن نسبة أمل وحظوظ أرفع بكثير في معالجة حالتها بالجراحة مع طرق العلاج المكمّلة.. وأنّ الكثير من المرضى مثلها نجوا وشفوا مقابل الأمل شبه المنعدم لحالتها في تونس.
المشكل أنّ كلفة العملية باهظة جدّا.. إذ تبلغ 54 ألف أورو.. أي ما يقارب 160 ألف دينار تونسي.. عدا طبعا مصاريف وتكاليف الفحص المسبق والسفر والإقامة بفرنسا لها ولمن سيرافقها..
المرأة المتمّتعة بتغطية صندوق التأمين على المرض “الكنام” “الصندوق الوطني للتأمين على المرض” تقدّمت بطلب للحصول على موافقة للتكفّل بعلاجها في المستشفى الفرنسي بناء على ملفّ طبّي موثّق.. ومنصوح به من مختصّين تونسيّين..
لكنّ “الكنام” رفضت تماما التكفّل بمصاريف علاج المواطنة التونسية في فرنسا لا كليّا.. ولا حتّى بمجرّد التكفّل بدفع جزء ونسبة من التكاليف الجمليّة.. مبرّرة ذلك بأنه على المرأة إجراء العمليّة الجراحيّة والعلاج بتونس حتّى ولو كانت حظوظها معدومة بشهادة وتأكيد الأطباء أنفسهم..!!!
ولأنّ الأمر يتعلّق بالحياة أو بالموت..
ولأنّ هناك أمل ولو بنسبة 20 أو 30 بالمائة فقط لإنقاذ المرأة.. يستلزم التشبّث به لآخر رمق..
فقد فعل أهلها المستحيل لتدبير المبلغ.. وتضامنوا معا لجمعه.. من زوجها إلى عائلتها.. واقترضوا واستدانوا ما قدروا عليه.. وباعوا ما أمكن لهم ممّا يملكونه مثل السيّارات وغيره.. ونجحوا أخيرا في جمع المال بالمبلغ المطلوب..
غير أنّ معاناة المرأة لم تكتمل بعد رفض “الكنام” التكفّل بعلاجها..
فبعد جمع المبلغ الذي يفوق 160 ألف دينار تونسي من مواردهم الذاتيّة بشقّ الأنفس.. طلبت العائلة من البنك المركزي التونسي الإذن بتحويله إلى العملة الصعبة بالأورو لدفعه للمستشفى في فرنسا.. مبرّرة ذلك بكونها مصاريف علاج عاجلة وخطيرة تتعلّق بحياة المواطنة التونسيّة.. وقدّمت الملفّ الطبي اللاّزم لتبرير الأمر والحاجة..
لكنّ الصدمة الأولى للمرأة كانت بأنّ البنك المركزي رفض تحويل الأموال.. طبعا بتعلّة أنّ موارد الدولة من العملة الصعبة محدودة.. وأنّ حالتها لا تبرّر التحويل..!!
يعني البنك المركزي التونسي يرفض تحويل أموال من الدينار التونسي مقابل حوالي 54 ألف أورو فقط حتّى ولو كان في ذلك أملا وفرصة لإنقاذ حياة مواطنة تونسيةّ.. باعتبار ذلك ليس ضروريّا في رأيهم ولوائحهم.. خوفا على رصيد البلاد من العملة الصعبة.. في حين أنّ الجميع يعرف بأنّ البنك المركزي يملك في المقابل.. وعلى ما يظهر للجميع.. ما يكفي من العملة الصعبة ليحوّل كلّ سنة المليارات لخلاص أجور مدرّبي ولاعبي الكرة.. ومطربي المهرجانات ومغنّيي الدرجة الثالثة والرابعة من الشرق والغرب في الحفلات.. وراقصات الكاباريهات والملاهي الليليّة..!!!
أي أنّ الدولة رفضت التكفّل أو مجرّد المساهمة في مصاريف علاج المرأة بالخارج.. ورفضت حتّى السماح لها بتحويل أموالها للخارج في محاولة لإنقاذ نفسها من الموت.. ممّا جعلها ينطبق عليها المثل التونس المعروف: “لا يرحم ولا يخلّي رحمة ربّي تهبط”..!!!
أمام رفض البنك المركزي صرف وتحويل الأموال.. اضطرّت عائلة المرأة إلى استعمال شبكة كبيرة من العلاقات والوساطات لتدبير المبلغ بالأورو في فرنسا.. عبر عشرات الأشخاص المهاجرين.. وعبر مبالغ صغيرة متفاوتة.. مقابل حصولهم على ما يعادلها بالدينار في تونس.. واستغرق ذلك.. بالإضافة طبعا لوقت المحاولات مع “الكنام”.. عدّة أسابيع كانت ستكون ثمينة في العلاج في وقت يواصل فيه السرطان نخر جسد المرأة أكثر كلّ يوم.. ويسرّع انتشاره..!!
الصدمة الثانية التي تلقّتها المرأة.. كانت بوصولها للمستشفى الفرنسي وبداية مرحلة العلاج تمهيدا للعمليّة الجراحيّة.. فبعد أن برّرت لهم أسباب تأخّرها عن الحضور للعلاج منذ اتّصالها بهم أوّل مرّة وعرض ملفّها الطبّي عليهم وتشخيص طريقة العلاج المناسبة لها وتكاليفها.. وذلك برغم خطورة حالتها والصبغة المستعجلة للعمليّة الجراحيّة التي لا تستحقّ الإبطاء كما أفهموها منذ البداية..
وبعد أن أخبرتهم المريضة برفض “الكنام” التكفّل بعلاجها في فرنسا.. ورفض البنك المركزي تحويل الأموال.. صُدِمَتْ المرأة وزوجها.. وفوجئا تماما.. بأن أبدى الأطبّاء ومديرو المستشفى الفرنسي المختصّ في السرطان دهشتهم من هذا الرفض.. وأخبروهما بأنّ “الكنام” في تونس سبق وأن تكفّلت.. ولا تزال تتكفّل دائما.. وبالفعل.. بمصاريف علاج عديد المرضى التونسيّين بالسرطان بنفس المستشفى.. ومنها حالات مماثلة تماما لحالتها.. وذلك بمبالغ ماليّة عموما مساوية أو تفوق تكاليف عمليّتها.. وأكيد أنّ الدفع يصلهم بالأورو..!!!
طبعا أنتم فهمتم.. كما فهمت المرأة وزوجها وأهلهما جميعا.. بأنّ ما كان ينقص ملفّها الطبّي للحصول على الموافقة السامية والثمينة لتكفّل “الكنام” في تونس بمصاريف العلاج بفرنسا.. وتحويل المبلغ بالعملة الصعبة.. ليس شهادة طبيّة إضافيّة.. ولا رأي إضافي لطبيب كبير ومختصّ.. وإنّما ما كان ينقصها في الواقع هو مجرّد “كتف” أو معرفة أو واسطة قويّة تقنع المسؤولين بالموافقة على ملفّها وضمان تكفّل الدولة بعلاجها كغيرها من المحظوظين الذين سبقوها..!!!
المهمّ أنّ المرأة التونسيّة التي لا تزال في غيبوبة منذ انتهاء عمليّة استئصال السرطان قبل أيّام.. ولا يعرف الأطباء هل سيستجيب جسمها للعلاج أم لا.. وهل ستكتب لها النجاة.. أوصت زوجها قبل أن تستودعه وهي لا تعرف هل ستراه ثانية هو وأبنائها.. أوصته وصيّة واحدة بأنّه لا أمنية لها لديه ليحقّقها لها إن فارقت الحياة.. إلاّ أن يعمل ما بوسعه ليعيش أبناءها مستقبلا خارج تونس.. في دولة تكفل لهم (في رأيها) إن أصابهم مرض مثل الذي أصابها.. أن يتمتّعوا بالعلاج الذي قد ينقذهم من الموت مهما غلا ثمنه.. ودون أن يكونوا في حاجة لواسطة أو معرفة ليضمنوا حظّهم في الحياة كما حصل معها…!!!
شفى الله هذه المرأة وخلّصها من سرطانها.. وأرجعها لصغارها وزوجها وأهلها سليمة ومعافاة..
وشفى الله كلّ مريض..
وشفى الله تونس وخلّصها من سرطانات السلطة فيها الذين فتكوا بها.. وأرجع بلادنا إلى أهلها وشعبها..!!
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.