أبو يعرب المرزوقي
هل من حسن التدبير أن يخضع المرء موقفه من موقف ترومب من النووي الإيراني بحجتين تبدوان من أنبل الحجج: رفض ازدواج المعايير والعداء مع إسرائيل؟
فالحجة الأولى هي: أليس من ازدواج المعايير السكوت عن سلاح إسرائيل النووي والاحتجاج على سعي إيران للتسلح النووي؟
هذا عامة دون تعيين للظرفين.
والحجة الثانية: كيف لعربي أن ينحاز إلى صف إسرائيل وأمريكا في هذا الطلب؟
أليس في ذلك خدمة لهما في مسعاهما إلى تفرد إسرائيل بالنووي؟
حجتان تبدوان عين العقل والحكمة. لكنها من جنس {ويل للمصلين}.
ولأبدأ بالقول إن موقفي لا يتحدد بهذه الطريقة العرجاء. وله دافعان: دولي وعربي.
وسأتكلم في الأمر من منطلق الدافع الأول بداية ثم من منطلق الدافع الثاني غاية. فطبيعة الموقف المعتمد على الحجتين لا يقبل من أوجه خمسة للمواقف.
فالاعتماد عليهما ليس منطقيا وليس خلقيا وليس سياسيا استراتيجيا ولا براجماتيا.
• منطقيا: شر حصل فات أوان منعه هل نقبل عدم منع مثيله مستقبلا؟
• خلقيا: إذا كان الأمران شرين ألا ينبغي اختيار اقل الشرين؟ فأي الضررين أخف أن يكون العرب أمام خطر عدو واحد أم أمام خطر عدوين نوويين؟
• سياسيا: هل من مصلحة العرب الاختيار التمييز بين عدو يحتل الارض التي تقبل الرجع لأنه لا يستطيع احتلال الروح وعدو يحتل الروح قبل الارض نهائيا؟
فإسرائيل تحتل الأرض فمآلها مآل الصليبيين لأنها جسم غريب على الإسلام والإقليم فضلا عن الحجم وإيران من الإسلام (تدعي) ومن الإقليم مع الحجم.
ثم هي بعد ممثلة بأقليات في جل أقطار الإقليم وبها مليشيات سينمو تنمرها وخاصة إذا صارت قوة نووية أمام حكام عرب مناذرة وغساسنة تخلو عن وحدتهم.
• استراتيجيا: إذا نظرت إلى موقع إسرائيل في الوطن العربي فمهما فعلت تبقى في كماشة عربية ويمكن وخاصة بعد عموم الثورة أن تحاصر سرطانا موضعيا.
لكن إيران ليست بين فكي كماشة وحجمها كبير وهي بالأقليات الشيعية تشبه فاعليتها الميليشاوية فاعلية السرطان الذي فشى في جسدنا يخربه من الداخل.
• وبراجماتيا: منع أحد الخطرين ممكن لنا الآن لأن الغرب يطلبه هو بدوره بعد أن استفاد منه في اضعافنا وامتناع منع الخطر الآخر لأن الغرب كله معه.
وعندي أن من لا يفهم هذه العلل التي تجعلنا وبكل وعي أميل إلى موقف ترومب رغم علمي بحمقه فكثرة كلامه على ما ينوي فعله قد يعجزه عن الفعل بحق.
وطبعا فمن الغباء ظن السياسة تخضع للثالث المرفوع: ففيها أكثر من ثلاثة حلول والدهاء السياسي لا يؤمن بمنطق عدم التناقض فلا يتقيد بإما وإما.
والقرآن الكريم لما حدد شروط ردع الأعداء في الآية 60 من الأنفال جعل هؤلاء الأعداء من نوعين كلاهما متعدد: من نعلمهم ومن لا يعلمهم إلا الله.
لذلك هو نبهنا إلى القوة عامة (وهي مادية وروحية اقتصادية وعلمية) وإلى القوة العسكرية (رباط الخيل) وحذرنا من انتظار المفاجئات ممن لا نعلمهم.
وسأذكر مثالا قد يغفله الكثير من اغبياء الاستراتيجيين العرب. فهم يخوفون الشعوب العربية من تركيا بغير وجه حق وينسون باكستان التي تخيفني بحق.
ذلك أني لا اتوقع أن تصبح تركيا تحت قيادة شيعية. لكن ذلك غير مستبعد في باكستان. وحينها نصبح كعرب مستعمرين بين أفكاك كماشة لثلاث قوى نووية.
وهنا لا بد أن أختم بحكمة استراتيجية: السياسة هي حرب بلا سلاح يستعد للحرب بالسلاح. وهذا هو مضمون الآية 60 من الأنفال: تستعد إيجابا وسلبا.
وإيجابا هو العمل على بناء شروط القوة عامة والقوة الدفاعية وسلبا السعي لمنع الأعداء المحتملين من نعلم ومن لا نعلم من التكاثر والاقتواء.
وكل قوة لست أنا صاحبها أو لي على صاحبها سلطان خاصة إذا كانت قريبة جغرافيا اعتبرها عدوا محتملا لأن التاريخ هو تمانع قوى حول ثروات المعمورة.
فحتى لو كنت غير طامع في ثروات غيرك فلا شيء يضمن أن غيرك ليس طامعا في ثرواتك. لذلك فالدولة ذات السيادة ترعى شعبها وتحميه بذاته المؤمنة به.
هذه المحاولة هدفها الرد على ادعياء الاستراتيجيا يبنون تحليلهم على عدم ازدواج المعايير والعداوة مع إسرائيل والغرب: لا عداوة إلا بين الانداد.
والغرب لا يعادينا إلا تطبيقا للأنفال 60: يريد منعنا من استعادة الندية فتاريخنا معه يثبت إمكانها. تقديمنا للعداوة الان سخافة لعكسها الآية.
استراتيجيتنا ينبغي أن تكون الحد من الأعداء من حولنا بمنطق الخيار بين شرين. والشر الصفوي أخطر من الشر الصهيوني لعلتين ذكرت واحدة وأضيف أخرى.
فليس لأن الصفوية تبدو من حضارتنا وأهلها من الإقليم فيكون احتلاله غير قابل للرجع كما حدث في إيران نفسها فهي قد كانت سنية قبل القرن السادس عشر.
ونحن نرى أن الفلسطينيين تكونت فيهم فكرة الوطن الفلسطيني وقويت عروبتهم وإسلامهم في حين أن التشيع أفقد العراقي والسوري ما أضاع الروح والأرض.
أما العلة الثانية فهي أن الصهيونية مسيطرة على العالم كله وهي أخطأت خطأ بدأت تفهم أنه سيحول دونها والسيطرة على المسلمين: احتلال أرض مقدسة.
وكل جرثومة يسهل القضاء عليها إذا هي تحددت بمكان ثابت: الصهيونية سيطرت على الغرب بفشوها فيه دولة. تعينها في دولة إسرائيل يزيل مفعولها.
أعلم أن تفكيري يبدو مفارقيا. لكن الاستراتيجيا كما قال الرسول في الحرب خدعة للعدو وخطة للذات. ومن لم يفهم عليه ألا يتصدر المواقف السياسية.
وإن ادعيت فهم الفكر الاستراتيجي بعيد المدى فلست أدعي تصدر المواقف السياسية. فالمؤثرة تعود إلى من يسميهم الغزالي معتبري الزمان. ولست منهم.
ولأمر الآن إلى المسألة الدولية: مثال كوريا الشمالية بليغ الدلالة. ومثله الاتفاق النووي مع إيران. كلاهما يثبت وخامة التساهل مع الاخطار.
موقف اوروبا الحالي المعارض لموقف ترومب من الاتفاق مع إيران أشبه باتفاق أوروبا العجوز مع هتلر قبل الحرب الثانية. وكوريا بلغت ما ستبلغه إيران.
هنا أيضا سيعترض علي من يحتج برفض ازدواج المعايير ومعاداة الغرب. فيصبح انتشار الأسلحة النووية أخطر على العالم من سلطان الغرب عليه. لست معه.
فعندي أن الغرب اليوم من حقه أن يمنع انتشار السلاح النووي ليس للزعم بعقلانيته بل حتى تتوفر شروط المطاولة التي ستغيره بالقوة الناعمة.
وما يساعد على تغييره بالقوة الناعمة هو أن شعوبه جربت حربين عالميتين جعلت الميل إلى المسالمة بينهم غالبا وهم يتركون العالم الآخر يتحارب.
فإذا بقيت هذه الحروب في العالم غير الغربي بالأسلحة التقليدية فستتحقق المطاولة ويصبح الغرب نفسه ميالا للسلم العالمية: سيرون خطرها العام.
إذا لم نسعى إلى هذا الحل فلكأننا نريد الانتحار الجماعي لأن السلاح النووي إذا انتشر وعم لن يحول دون استعماله ترادع عالمي بل سيحكمه المجانين.
والمجانين الذين يقدمون على الانتحار الجماعي يتكاثرون بانتشار أسلحة الدمار الشامل بين من ليس عنده ما يخسر في مغامراتهم.
ينبغي منع الانتشار.
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.