مقالات

العزوف عن السياسة: فشل الأحزاب وغياب المعنى

إحسان علواني

تنتج عن ذلك التناقض البديهي بين أحلام الثائر، وأغلال السياسي مسافة حقيقية بين الانتظارات وبين الواقع. وكلما اتسعت هذه المسافة كلما بزغ الإحباط وترعرع. وهو ما يخلف اعتقاداً بأن الطبقة السياسية لا تعنيها مشاكل الناس، ما ينتج عزوفاً عاماً عن السياسة وهجراً لها.

يتشكل المشهد الحزبي في تونس من ثلاثة أنواع من الكيانات: ماكينات صلبة في زمن سائل، دكاكين مقاولة حزبية، وتكتلات تكنوقراط ما تحت-سياسية. وتعيش هذه الأجسام قصوراً واضحاً عن تأطير الجماهير وخاصة الشباب ما يجعلها أسباباً تضيف الإحباط وتشكل بيئة عقيمةً لا تعكس آمال الناس وتطلعاتهم.

1. أجسامٌ صلبة، في عالم سياسي سائل:
لابد لكل تنظيم سياسي من شكل من أشكال احترام تراتبية الهياكل. لكن مع سيولة المعلومة وشيوع منصات التواصل، فان نمط الممارسة العمودي هو نمط ينتج تفلتا في القواعد والقيادات الوسطى على حد سواء. إذ بينما يتوقف دور القواعد في المنظمات الكلاسيكية على تلقي الأوامر وتنفيذ السياسات التي تحددها الهياكل المركزية فإن أجيال التواصل الاجتماعي تتمتع بمنابر يتمكن الفرد فيها من التعبير عن وجهة نظره التي قد تكون في تناقض مباشر مع رؤية الحزب. كما مكنت هذه المنصات الافتراضية القواعد من الاحتكاك بأصحاب رؤًى مختلفه عنهم والخروج من الدائرة المنسجمة فكرياً وسياسياً داخل منظماتهم وأحزابهم إلى مجال أوسع وأرحب وأقل تجانساً.
ولمواكبة هذا التغير الجوهري في الواقع المعيش، يبدو من الضروري إحداث تغييرات هيكلية وجوهرية على نمط الممارسة السياسية للأحزاب الكلاسيكية. ويكون ذلك بالسماح بهامشٍ من الأفقية التي تتماشى مع سيولة المعلومة، وتتيح إنتقالاً سريعاً للأفكار بين مختلف التراتبيات ما يوحي بأن جدار الهرمية شفاف غير حائل، ورقيق غير صلب.
أما الأجسام التي مازالت تسعى جاهدةً للحفاظ على الصلابة التنظيمية لماكيناتها دون تكليف نفسها عناء فهم المتغيرات السريعة، فإنها مهددةٌ في وجودها وتواصلها وسط عالمٍ يموج بالتغيرات المنفلتة.
ومن جهة أخرى فإن أي تنظيم معني بالشأن العام ليس فيه هيكل خاص معني بالاستشراف السريع والدائم لليقظة والتماشي مع التسارع المفزع للتغيرات هو تنظيم مهددٌ بالغرق في سيولة الحياة الحديثة.

2. دكاكين المقاولات الحزبية:
أما الصنف الثاني من مكونات الساحة الحزبية التونسية، فهو “المقاولات الحزبية”. وهي كيانات أقرب لاستثمارات رأسمال (مادي أو رمزي) في السياسة من أجل تحصيل فائدة شخصية. وخطر هذا الصنف أنه دون أدبيات، ولا تاريخ، ولا أفكار… انما تكون المضاربة عنده في المواقف بحسب إمكانية تحصيل الفائدة الشخصية المرجوة تماماً كالمضاربة في أسهم البورصة. وهذا ما يشيع إحتقاراً وإحباطاً لدى العامة ويعزز الفكرة السائدة بأن الممارسة السياسية إنما هي مطية للربح الفردي والتحصيل لفائدة شخصية على ظهور الناس، لا عملاً نبيلاً من أجل الصالح العام.

3. التكنوقراط… كيانات ما تحت-سياسية:
انتشرت بعد الثورة أوهامٌ سياسية من أهمها أن الوزير يجب أن يكون تقنياً في مجال وزارته.
لا شك أن المعرفة بمجالٍ ما لا يمكن إلا أن تكون إيجابيةً وعاملاً مساعداً على فهم مشاكل القطاع وتسييره. والخلط الواقع هنا هو أن هذا ليس بالشرط اللازم ولا هو بالكافي للنجاح في تسيير وزارة.
فليس هو بالشرط اللازم لأن الوزير يكون على ذمته فريقٌ من التقنيين المتمرسين والإداريين ذوي الخبرة والكفاءة. وهم في حاجة لمن يحمل فلسفةً وفكراً تعينه على معرفة الاتجاه الصحيح الذي يجب النزوع نحوه، ويكون دور التقنيين إقتراح الحلول التقنية اللازمة لذلك الخيار. وليسوا في حاجة إلى تقني مثلهم لا يضيف لهم شيئاً ولا يعرف تحديد السياسة العامة والخطوط العريضة التي يجب اتباعها.
أما مواقع القيادة فهي مواقع سياسية، بمعنى أن دورها تحديد الوجهة العامة، وحشد الطاقات حولها. وأما ما دون ذلك من الأمور التقنية، فهي من إختصاص ” التكنوقراط”. ولتحديد التوجهات العامة، فإن معيار التناسب والجدارة مرتبط بالعمق الفكري مشفوعاً بالذكاء الإجتماعي والسياسي، وإن كان المعني رئيس وزراء أو رئيساً، فيضاف إليها قدرةً تواصلية فائقة.
أما بدعة الكفاءات التقنية، فهي تقدم أناساً منفصلين عن الواقع، جاهلين بالسياسة يتصرفون مع البلاد كأنها شركة متعددة الجنسيات. فمن أكثر ما يضحك ويفزع في نفس الوقت في بعض الشخصيات السياسية هو ذلك الصوت الأبله ونبرة السذاجة في كلامهم. ربما لأن خط حياتهم كان خاليا من الصعوبات ومسطرا بعناية لم يجدوا وقتاً لاكتشاف الحياة خارج العمل بالنهار والترفيه البورجوازي في الليل.
هذه النوعية فضلاً على أن ذهنهم خالٍ تماماً من “القضايا الكبرى” خواء رصيدهم وتاريخهم السياسي فإنهم يتعاملون مع البلاد كما يتعاملون مع “الفرنشايز”، يبيعون ويشترون.

خلاصة:
يمثل إفراغ السياسة من المعنى أحد الأسباب العميقة لهجر الناس للاهتمام بالشأن العام. وتكمن خطورة هذه اللامبالاة أنها تقتل الديمقراطية وتسَرِّع ميكانزمات النقمة والرفض مؤذنةً بانفجار حتمي غير مضمون العواقب.
وبالتالي فإن الحاجة مُلِحّة لقوة سياسية تضخ المعنى وتفتح نافذة للحلم، بآليات ممارسة سياسية سائلة، مجددة وأقرب ما يمكن إلى الأفقية.
جريدة الرأي العام

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock