صالح التيزاوي
“دخلة” شبيهة بـ “دخلات الكورة”، نفذ منها زعيم الجبهة إلى موضوع الإنفصال الكردي، والحقيقة أنّ حمّة قال كلاما في غاية المنطقيّة: “الإنفصال لا يخدم العرب والأكراد”. وما إن ذكر اسم “عبد اللّه أوجلان”، حتّى ضاع المنطق، وغاب العقل وبرزت الأيديولوجيا بأعنف ما تكون. حيث أصبح عبد اللّه أوجلان زعيما ديمقراطيّا، وبطلا قوميّا (ربّما هو كذلك عند الأكراد). حمّة من جهة هو ضدّ الإنفصال، ومن جهة ثانية يثني على أوجلان وهو زعيم الإنفصاليين، أسّس منظّمة “حزب العمّال الكردستاني” وهي منظّمة إرهابيّة، حملت السّلاح ضدّ الدّولة التّركيّة، وتنشط المنظّمة على جزء من الأراضي التّركيّة والسّوريّة والإيرانيّة والعراقيّة. ويسعى أوجلان إلى إقامة دولة كرديّة، لا يسمّيها حمّة انفصاليّة ولكنّه يسمّيها “مستقلّة” على أسس ماركسيّة لينينيّة.
أمّا بقيّة الحوار فعنوانه الأبرز “النّهضة وعلي العريض”، ما من سؤال يطرحه محاوره (وهي أسئلة في عمومها تتراوح بين السّاهل والماهل) إلّا وتعمّد زعيم الجبهة إقحام النّهضة والترويكا وعلي لعريض والمرزوقي، بمناسبة ودون مناسبة، حتّى أنّه ذكر ” النّهضة” أكثر من عشرين مرّة. من يستمع إلى زعيم الجبهة، يخيّل إليه وأنّ التّرويكا حكمت ستّين عاما أو يزيد. وأعجب العجب أنّه يتّهمها باضطهاد الشّعب التّونسي. يا رجل: متى؟ وكيف؟ وأين؟ لقد كنت شريكا في صياغة الدّستور بمقعد نيابي واحد أو مقعدين في أحسن الأحوال، وكنت شريكا في الحوار الوطني، وكنت شريكا في كلّ مراحل البناء الدّيمقراطي. فعن أيّ اضطهاد تتحدّث؟ وخرجت التّرويكا من الحكم نزولا عند رغبة اعتصام “الرّزّ بالفاكية”.
وهو في كلّ ذلك لا يشير، ولو مجرّد إشارة إلى جرائم النّظام النوّفمبري واضطهاده للشّعب. فالنّهضة هي التي أوصلت البلاد إلى الهاوية. دون أن يذكر الرّفيق ذلك الحجم المرعب من الإضرابات والإحتجاجات وطوفان المطلبيّة الذي هزّ الدّولة وأربكها وعطّل الإنتاج في مناجم الفسفاط، ولا يذكر قطع الطّرقات بالنّهار والّيل. فهل الإحتجاج على البطالة (وهو أمر مشروع) والمطالبة بالتّنمية (وهي أمر مشروع) يتمّ في جنح الظّلام كما حدث في حكومة السّيّد الحبيب الصّيد والذي نصحه رئيس الجمهوريّة بأن “يعمل عين شافت وعين ماشافتش” حتّى لا يحرج الواقفين وراءها.
سي حمّة مازال غارقا في تصوّراته العتيقة للعمل السّياسي على قاعدة “حكم ومعارضة”. تونس في مرحلة ما بعد الثّورة لا يمكن أن تدار بهذه العقليّة العتيقة لأنّها تحتاج إلى جهود كلّ أبنائها. ولكنّ الجبهة أدمنت الرّفض وهي لا ترفض على أساس البرامج كما تسوّق ولكن على قاعدة صراعات بالية أصبحت من الماضي. يبقى أغرب ما في حديث الرّفيق حمّة حديثه عن “عودة الأزلام” ويتناسى أنّه اكل من غلّتهم في اعتصام “الرّزّ”، فهل للرّفيق الحقّ الآن بأن يتظاهر بسبّ ملّتهم ؟
لم يفوّت زعيم الجبهة الفرصة ليذكر كدليل على اضطهاد التّرويكا للشّعب “حادثة الرّشّ” (وهي مرفوضة بكل المقاييس)، لكن ما “يطيّر” العقل حقيقة: الجبهة تطالب بمحاكمة المسؤولين عن تلك الحادثة، وفي الوقت نفسه تسرج قياداتها وتشدّ الرّحال لإلتقاط الصّور مع بشّار الأسد صاحب البراميل المتفجّرة ويشاركونه الرًقص طربا وسط أكوام الخراب وفوق المقابر الجماعيّة لشعب حلم كغيره من شعوب الأرض بأن يتحرّر من الإستبداد.
وعندما يسأل السّيّد حمّة “هل ستغيّر الجبهة من خطابها؟ وهل ستقوم بمراجعات؟ يمعن الرّفيق في سياسة الهروب اإلى الأمام، ويقول بأنّ الجبهة لن تتخلّى عن الفقراء، ويتساءل في استغراب: “ماذا سنغيّر؟” لا أحد يطلب منك سي حمّة أن تتخلّى عن الفقراء. وليس لك حقّ احتكار الدّفاع عنهم، الفقراء والمهمّشون هم الذين دافعوا عنك وعن الجميع عندما ثاروا على من اضطهد الشّعب. عموما المراجعات أعمق ممّا ذكرت. نريد موقفا لا لبس فيه من المسألة الدّيمقراطيّة ومن التّداول السّلمي على السّلطة لأنّ دعمكم لسفّاح الشّام لا يجعلنا مطمئنّين على مستقبل الدّيمقراطيّة في تونس. نريد موقفا واضحا من مدنيّة الدّولة لأنّ دعمكم للإنقلاب العسكري في مصر إلى حدّ التّحريض على استنساخه، لا يبدّد مخاوفنا على الطابع المدني للدّولة.
نريد موقفا واضحا من مسألة العيش المشترك بعيدا عن منطق الإقصاء والإستئصال الذي كرّسه المخلوع.
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.