سماحة المفتي و”مأزق الرؤية” !
أحمد الرحموني
رئيس المرصد التونسي لاستقلال القضاء
من الثابت ان كثيرا من المتابعين قد داخلهم الشك في “رؤية” هذا العام وهم يقرؤون البلاغ القصير لسماحة مفتي الجمهورية الذي اعلنه (على غير العادة) في نهار يوم الاربعاء 20 سبتمبر 2017 على الساعة الواحدة وسبع دقائق (1.07س) بعد الزوال.
ودون مقدمات تضمن البلاغ “أن غدا الخميس 21 سبتمبر 2017 هو أول يوم من شهر محرم 1439 هـ”.
ومن الطبيعي ان يكتسي ظهور المفتي في ليلة السنة الهجرية الجديدة اهمية مضاعفة لان اليوم التالي او الذي بعده هو يوم عطلة رسمية فضلا عن ارتباط العام الجديد ببعض المراسم والتقاليد الدينية والعادات الغذائية (الباقية).
لكن هل ظهر المفتي في الوقت الخطا (اي قبل الاوان !) وكان عليه ان يظهر في ليلة الخميس (او يوم الاربعاء ليلا) الموافقة ليوم 29 من شهر ذي الحجة 1438 !؟
بالتاكيد ان ذلك لم يكن متوقعا والا لم يكن سماحة المفتي مضطرا لتوضيح موقفه بعد سيل الاتهامات والانتقادات والتعليقات “الساخرة”!.
ولعل “اقسى” ما بلغته تلك التحفظات هو القول بان “اوامر أتت دار الإفتاء لتلزم “السيد عثمان بطيخ” بإختيار يوم الخميس كموعد لرأس السنة الهجريّة وذلك من أجل الإستفادة من يوم عمل (الموافق ليوم الجمعة) بدلا من عطلة كانت ستمتد لثلاثة أيّام متواصلة” (موقع الصدى الالكتروني).
وبعيدا عن تلك “التكهنات” التي تعكس “بعمق” اهتزاز الثقة في مؤسسات الدولة، يمكن ان نجزم ان سماحة مفتي الجمهورية قد اوقع نفسه عند التوضيح في مازق حقيقي كان في غنى عنه (راجع توضيح المفتي لاذاعة جوهرة .اف.ام تحت عنوان “الاعلان عن رأس السنة الهجرية ظُهرا : مفتي الجمهورية يوضح” 21 سبتمبر 2017):
• فمن جهة اولى: يبدو ان سماحة المفتي قد غفل (او تغافل) عن مبدا الرؤية (والمقصود البصرية) في ثبوت الاشهر القمرية. فهو يشير -ردا على منتقديه- الى انه “بعد التأكد من صحة الحساب الفلكي تم الاعلان عن رأس السنة الهجرية أي الأول من شهر محرم 1439 هجري الموافق ليوم الخميس 21 سبتمبر2017 ميلادي.. وأنه يتم عادة عقد جلسة عمل مع المعهد الوطني للرصد الجوي عند كل شهر للتثبت من التقويم الهجري وهو الأمر ذاته لتحديد رأس السنة الهجرية ليتم الاعلان عنها مباشرة بعد التأكد منها بشكل علمي”.
ومن الواضح ان هذا القول يتضمن الاعتماد بصفة اساسية على الحسابات الفلكية الصادرة عن المعهد الوطني للرصد الجوي في حين ان هذا الاتجاه قد تم التخلي عنه بعد صدور الامر عدد 727 لسنة 1988 المؤرخ في 8 افريل 1988 المتعلق بالسنة الهجرية الذي يقتضي تعيين الاشهر القمرية بموجب الرؤية البصرية على ان تؤخذ بعين الاعتبار الحسابات الفلكية على وجه الاستئناس.
ويلاحظ ان التأكيد بموجب هذا النص على ان “الرؤية البصرية طريقة للاثبات” قد قطع -تاريخيا- مع ممارسة سابقة على عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة اتجهت الى ان دخول كل شهر من اشهر السنة الهجرية الموافق لرؤية الهلال يقع تعيينه مسبقا حسب التقديرات الفلكية المدققة الصادرة من المصالح العمومية المختصة (مصلحة الارصاد) (الفصل الاول من الامر الملغى عدد 52 لسنة 1960 المؤرخ في 23 فيفري 1960 المتعلق بالسنة الهجرية). وهو ما ادى الى التخلي عن اعتماد الرؤية الشرعية مطلقا بسبب انه يمكن -حسب الامر المذكور- “ضبط الموافقة بين الرزنامة الشمسية والرزنامة القمرية ضبطا مدققا طبقا لقواعد علمية – فلكية ثابتة” ولذلك “يتعين معرفة دخول الاشهر القمرية قبل حلولها للقيام بالمواسم الدينية وتنظيم الحياة العامة”.
• اما من جهة ثانية: فيتضح ان سماحة المفتي قد اسقط من اعتباره ان بداية جميع الاشهر القمرية يقع تعيينها بالرؤية. فهو يؤكد -خلافا لذلك- “أنه لا يتم انتظار غروب الشمس للتثبت من رؤية الهلال إلا في حالتين اثنتين وهما عند حلول شهر رمضان (ورؤية) هلال عيد الفطر اما بالنسبة لعيد الأضحى فهو مرتبط بالسعودية ووقفة عرفة، وفيما يتعلق بباقي أشهر السنة الهجرية فإنه يتم اعتماد الحساب الفلكي.” (راجع توضيح المفتي لاذاعة جوهرة .اف.ام المذكور اعلاه).
وفي ضوء ذلك يمكن ان نلاحظ ان سماحة المفتي لم يخالف فقط نص القانون بل انه يبدو متناقضا مع توجهاته السابقة بهذا الشان.
فمن جانب القانون يتضح ان اعتماد المفتي في تعيين الاشهر القمرية والاعياد الدينية على الرؤية (رمضان وشوال) والتقليد الخارجي (عيد الاضحى) والحساب الفلكي (باقي الاشهر القمرية) يتناقض بصفة صريحة مع الفصل الاول من الامر عدد 727 لسنة 1988 المؤرخ في 8 افريل 1988 المتعلق بالسنة الهجرية الذي ينص على انه “يقع تعيين بداية كل شهر قمري بالرؤية مع الاستئناس بالحساب”. ومقتضى ذلك ان بداية جميع الاشهر القمرية دون استثناء يتم ثبوتها بالرؤية البصرية (بعد الغروب) وان الاخذ بالحساب الفلكي يتم على سبيل الاستئناس، ولذلك فلا مجال للقول ان باقي الاشهر القمرية يتم اثباتها بالحساب الفلكي كما لا يمكن تبعا لذلك ظهور المفتي “قبل الغروب” ليعلن دخول السنة الهجرية !.
اما من جانب التطبيق فقد تبين تناقض سماحة المفتي في موقفه الاخير مع عمله السابق الذي اتجه في بعض الحالات (في غير شهري رمضان وشوال) الى اعتماد الرؤية البصرية كسبيل لتعيين الاشهر القمرية. من ذلك اعلانه بتاريخ 24 جويلية 2017 “عن تعذر رؤية هلال شهر ذي القعدة 1438 هجري وذلك بكامل تراب الجمهورية، مشيرا إلى ان يوم الثلاثاء 25 جويلية 2017 هو اول يوم من شهر ذي القعدة 1438 هجري”.
ولذلك كان من الجائر ان نسال: هل من تبرير لكل هذا التناقض!؟