حوار بين الأستاذين زهير إسماعيل ورضا كارم: الأحزاب ومستقبل الحراك الإجتماعي

زهير إسماعيل
عن الحكم والمعارضة والتمثيل السياسي للحراك الاجتماعي
هذا نقاش كان منطلقه نصّ “هل كان حوار جريدة الصحافة الشهير منتحلا ؟!!” (رابط المقال). وقد كان من الأستاذ رضا كارم المحترم سؤال دقيق عن حدود العضوية، وعن الحراك.
وقد تجشمت الإجابة فكان هذا النص المطوّل مراوحة بين الإجابة وتعليق الأستاذ رضا. وأشكره على إضافاته النوعيّة وعلى التنبيه إلى عديد المسائل المنهجيّة والمضمونيّة الهامّة، كما أشكره على رفعة خلقه وتشبّعه بآداب المناظرة المنهجية والعلميّة.
تحدّثت عن الثورة والحراك الفكرة (وليس الحراك الحزب). أتكلّم من موقع المستقل عن كل الأحزاب (لست منتميا لأي حزب)، ولا أمثّل إلاّ نفسي. لست محايدا، ولا يمكن أن أكون محايدا، ولكنّي أتوخّٰى الموضوعيّة ما أمكنني.
أعرض هذا الجهد لما قد يكون فيه من فائدة. ومطلوب الصبر على طول النص.
النص المنطلق:
هل كان حوار جريدة الصحافة الشهير منتحلا ؟؟! (رابط المقال)
السؤال :
سي زهير الفاضل
هل يمكن ان تشرح بشكل أوضح مشروعية قسمة المعارضة الى وظيفية وعضوية وتقرير انتماء الحراك الى العضوي من المعارضة؟
علام بنيت هذه القسمة؟
ثم، ألا ترى ان المعارضة العضوية وفق تقديرك تظل سياقية منطلقة من الليبرالية مبررة لها ومراهنة على تغيير من الداخل بأدوات لا تملكها بقدر ما تنتظر هبة النهضة وهي فرع رئيس من السلطة؟
الجواب :
‏1. قسم أوّٰل
مقدّمة :
تحيّاتي سي رضا
عذرا، لم أنتبه إلى سؤالك لبعض الانشغال. وسؤالك محرج: فإذا أجبت بما أتصوّره إجابة ضافية كانت الإطالة على القارئ وبعض العنت عليّٰ، وإذا اختصرت كان الإخلال.
الوظيفيّة / العضويّة ثنائية إجرائيّة لم تتنكّر لي في مجالات مهمّة ومنها مشهدنا السياسي الاجتماعي، وكانت أداة لعرض أدقّ وأشمل في آن للمشهد. وقد أسعفتنا كثيرا في تبيّن علاقة المقاومة/الثورة، وما اعتبر تعارضا بين المقاومة والثورة في السياق السوري.
ومثلما تحيل “العضويّة” إلى غرامشي (المثقف العضوي هو المثقف المرتبط فكريا ونضاليا بالطبقة الصاعدة) وتحيل “الوظيفية” إلى عبد الوهاب المسيري (ليس هو مخترع المفهوم)، فقد أجاد استعمالها في موضوع دولة الكيان معتبرا إيّاها دولة وظيفيّة يسري عليها ما يسري على الجماعات الوظيفيّة عموما، وهي الجماعات التي لا تَمَفْصُل لها مع السياق الفكري والاجتماعي والثقافي ولكنها قادرة على توجيهه لخدمة مصالح فئويّة داخلية أو خارجيّة تتعارض مع المصلحة العامّة. وإذا شئنا فإن كلّ جماعة هي وظيفيّة أيّا كان اتجاه هذه الوظيفة وأيّا كان المستفيد منها.
العنصر الأوّل :
كنت سعيت في 2012 إلى تصنيف الأحزاب السياسيّة على ضوء ثنائيتي: وظيفيّة/عضويّة و عقدي/سياسي.
ومقياس العضويّة هنا هو علاقة الحزب بثقافة الناس (نتيجة ما استقرّ عند الناس من قيم جامعة وثقافة مشتركة وتجربة جماعيّة: مثلا بلادنا والناس فيها هم عرب مسلمون، بقطع النظر عن موقفنا من العروبة والإسلام، وهو ما يعبّر عنه في المعجم السياسي بالهويّة العربية الإسلاميّة). فالأحزاب التي ترتبط بهذه الهويّة المرجعيّة وتنطلق منها اعتبرتها عضويّة، وامّا التي تنطلق من مرجعيّة برّانيّة فقد اعتبرتها وظيفيّة دون مدلول معياري.
ومن ناحية أخرى لاحظت أنّ وجود ظاهرة سياسية بارزة تتمثّٰل في تحوّل من العقدي إلى السياسي: فالحزب الشيوعي، أصبح التجديد وانتهى المسار، والنهضة كانت الجماعة الإسلاميّة، ثم الاتجاه الإسلامي، وانتهت عند اسم النهضة (اسم ناقشهم فيه هشام جعيّط في سنة 90 وقال لهم هذا ليس من معجمكم)، والتجمع الاشتراكي التقدمي، صار الحزب الديمقراطي التقدمي، وانتهى إلى الجمهوري. حزب العمال حذف عبارة الشيوعي، فهذه ظاهرة لم يسلم منها حزب تقريب. وهو ما يعني أنّه مع الزمن يتخفف الحزب من الأعباء العقديّة نحو الهويّة السياسية (يس تقدما نحو زمن ما بعد الإيديولوجيا)، وبعد الثورة كانت كلّ أسماء جلّ الأحزاب متخلّصة من العبء العقدي الإيديولوجي، دون انتفاء فعل الإيديولوجيا وأثرها عليه.
وعليه وجدنا الأحزاب أربعة لا خامس لها:
حزب عضوي عقدي: النهضة
حزب وظيفي عقدي: البوكت
حزب وظيفي سياسي: التكتٰل
حزب عضوي سياسي: حزب المؤتمر.
وأنّ الاتجاه العام هو التطوّر نحو الحقيقة العضويّة/السياسية (التمييز بين الدعوي والسياسي في حركة النهضة على سبيل المثال، وهناك أمثلة أخرى ومراجعات يضيق عنها المجال). مع ردّات تقع هنا وهناك لا تغيّر الاتجاه العام. كان هذا في 2012، ولكن تطورات المشهد السياسي فتحت أعيننا على مضامين جديدة للعضوية والوظيفية، ولا سيما بعد، 2014 والنتائج السياسية للانتخابات وتداعياتها الأخيرة وتأجيل الانتخابات وقانون المصالحة،،،الخ
العنصر الثاني :
من متابعتنا للمشهد تبينت لنا محدّٰدات أخرى في موضوع العضويّة والوظيفية، وهي عديدة ولكننا سنقتصر على أهمها ونجملها في: الموقف من الاستبداد، العلاقة بالانتفاض الاجتماعي الجذري، الموقف من الدولة والديمقراطيّة. وقبل الوقوف عند هذه المحددات، أشير إلى حقيقة ينطلق منها الحراك وتتمثل في الانقسام المضاعف الذي تعيشه بلادنا: انقسام هووي وانقسام اجتماعي. وهو نتيجة لتجربة الدولة الغنائميّة المسماة وطنيّة، التي كانت منذ عهد البايات مرورا بالمرحلة الاستعماريّة وصولا إلى “دولة الاستقلال” مركزية. وهو ما يعني أنها غير قادرة على تغطية كل المجال الثقافي (غطّت الوطني دون الأهلي: في هذا تفصيل قد نعود إليه) وكل المجال الاجتماعي.
الانقسام الاجتماعي عميق، مما جعل البلاد منقسمة عموديا إلى ساحل وداخل واقتصاديا إلى اقتصاد رسمي واقتصاد موازي وسياسيا إلى مجال رسمي وآخر في الهامش، وأن ثورة 17 لم يقم بها المجال السياسي الرسمي الذي يمتد من النهضة إلى حزب العمال وانما الذي فجرها هو المجال السياسي الهامشي (سنسمي الرسمي المجال السياسي والهامش المجال الاجتماعي).
الموقف من الاستبداد :
الحراك امتداد لتجربة حزب المؤتمر من أجل الجمهوريّة، وهذا الحزب رغم انتمائه إلى المجال السياسي الرسمي فإن خطابه ينتمي إلى هناك إلى الهامش. وكانت أهم نقلة أدثها الحزب هي إعلان نهاية المعارضة (سقفها العفو التشريعي) وبداية المقاومة (لا يصلح ولا يصلح، سقفها إعلان العصيان المدني) وهل كانت انتفاضة الهامش الجذرية المواطنية الاجتماعيّة إلاّ عصيانا مدنيّا.
العلاقة بالانتفاض الاجتماعي :
نشأ الحراك في سياق الانتخابات الرئاسيّة التي كانت تصحيحا للمسار العام. وإذا كانت الانتخابات التشريعية قد جرت في المجال السياسي الرسمي (الاستقطاب الهووي نهضة/نداء) فإنّ الانتخابات الرئاسيّة دارت في ظلّ استعادة المواجهة مع المنظومة القديمة العائدة بقوّة.
مع الحوار الوطني كان الخروج من التأسيس إلى الانتقال الديمقراطي، ومن الواجب محاسبة القديم على قاعدة العدالة الانتقاليّة، إلى واقع منافسته على قاعدة التوافق.
وإذا كان الانقسام الاجتماعي سببا في الإطاحة برأس الاستبداد فإنّ الانقسام الهووي كان الثغرة التي منها عاد القديم ولعبت الجبهة واليسار عموما دورا حاسما في عودة القديم الذي رضي بصفة زلم ولبس السفساري تخفيا، فإن اليسار منحه صفة معارض في وقت قياسي ووقف في اعتصام باردو منتصب القامة ولجّ في الخصام. وهنا تتأكّد وظيفيّة الجبهة وجانب من قوى اليسار. وهذا لا يلغي ارتعاش أيادي من قادوا مرحلة التأسيس.
كان الحراك يدرك أنّ الحراك الاجتماعي أمامه وأنه يجتهد في أن يكون التعبير السياسي عنه، بل أنّ دوره هو تجسير الهوٌة بين المجال السياسي (المركز) المجال الاجتماعي (الهامش المفقر)، وهو ما يعني جرّ الديمقراطيّة التمثيلية لكي تنفتح على أوسع الحشود وتصبح ديمقراطيّة تشاركية مرشحة لكي تتطور إلى ديمقراطية مباشرة. وقد شرع المجال الاجتماعي في تجاوز المعنى السالب للحرية إلى معناها الباني فجمنة طبقت الباب السابع على طريقتها (كان فضل المؤتمر كبيرا في فرض باب الحكم المحلي) والكامور طبق الفصل 13 وطرح أخطر المواضيع (موضوع الاقتصاد والثروة وعلاقتهما بالسيادة والاستقلال الاقتصادي).
الموقف من الدولة والديمقراطيّة :
توجد اليوم لحظتان: لحظة ديمقراطيًّة اجتماعيّة، هي امتداد للمعارضة السياسية في مرحلة الاستبداد التي لم تتجاوز “المعارضة الاجتماعيّة” في حين يجتهد الحراك في أن يطوّر “المقاومة السياسية” إلى “مقاومة اجتماعيّة” وتشكيل تيار نضال اجتماعي غايته دفع الشروط الاجتماعية والسياسية نحو رأب الصدعين الهووي الاجتماعي. فالانقسام الاجتماعي كان سبب الثورة المباشر ورأبه هو غايتها البعيدة. ويلاحظ أن الاحتجاج الاجتماعي على مدى سبع سنوات تواصل رغم اختلاف الحكومات بين الجديد والقديم.
فتكون الغاية هي رأب الانقسام الهووي بصياغة مشترك وطني (اليوم لا شيء يجمعنا) ورأب الانقسام الاجتماعي بتنمية محلية مستدامة وشاملة، وهو ما يعني إعادة بناء الدولة لكي تغطي لاول مرة في تاريخها المساحتين الثقافية والاجتماعية. وهذا هو جوهر المشروع الوطني. وبهذا المعني يكون الحراك مواطنيا اجتماعيا: اللامركزية وتكريس الأفقية ودفع الناس إلى تحمّل مصائرهم وتجويد عيشهم بشروطهم المحليّة.
العضوية لم تعد تتحدّد بالمكون الهووي (مثلما تبينته في 2012 وعرضته لتوضيح تطور الفكرة من خلال تاريخها) وانما بالدور الاجتماعي والقدرة على توحيد البلاد برأب الصدعيْن.
لقد فشل الإسلاميون في تحويل الاخلاق الإسلامية إلى بدائل عدل، وفشل الماركسيون في تعريب مفاهيم العدل الاجتماعي في التصور الماركسي وترجمتها بما يتمفصل مع عقائد الناس. يجتهد الحراك في تحقيق العدل الاجتماعي من خلال ثقافة الناس واعرافهم وخُبرهم (الاستفادة من تجارب لاهوت التحرر والفكر المناهض للاستعمار والهيمنة، والإصرار بصنع نموذجنا). ويشدّد الحراك على مرجعية الثورة من جهة مرجعيتها السياسية، ودورها في تقديم إجابات عن أزمة الدولة الحديثة وأزمة العلاقة بين السياسة والسوق، وأزمة المجتمع الإممي وضرورة الصياغة البديلة.
هذه بعض معاني عضويّة الحراك، والتي قد تساعد بالخُلف على تبين وظيفية المكونات الأخرى، من خلال دور بعضها ومنها الجبهة في التحالف مع الثورة المضادة، وإرجاع القديم وتبيضه والتحالف معه وقطع الطريق لصالحه.
بالنسبة إلى السؤال الثاني أحيلك على نص لي على جداري بعنوان : السيستام يعيد بناء نفسه حكما ومعارضةً، (رابط) فقد يكون فيه بعض فائدة.
مع الشكر الجزيل على إتاحة فرصة الإجابة، ولو كان هناك متسع من الوقت لكان العرض أفضل.
ولا أخفيك من أني سمحت لنفسي بالحديث عن الحراك (أنا من مؤسسيه)، ولكني اليوم خارج الحزب بعد استقالتي وخارج عن كل التزام حزبي. والفكرة ملك الجميع. وإن هو إلا كلام قلناه يؤخذ منه ويردّ.
تعليق الأستاذ رضا كارم
ألاحظ أستاذ أنك تفهم العضوي والوظيغي ضمن نظام واحد.
العضوي يرتبط بثقافة المجتمع لا بأغلبيته المسحوقة طبقيا والوظيفي يتخلص من عبء الثقافي الهووي لصالح السياسي العام.
هذه المقاربة لها معقولية داخل النظام العام المتحكم أي رأس المال.
الواقع أنها من الخارج تفقد بعض انسجامها. وجه الفقد أن الهووي الثري المترف يستحيل أن تتصل مصالحه ورهاناته بالهووي المهمش.
بل لعل العضوي، ضمن هذا المنظور، عقل محافظ ملتزم بالواقع كما هو وهو بذلك اجترار للتاريخ وإعادة إنتاج لعناصره وتطبع بإفرازاته.
وتكون المعارضة العضوية بهذا المعنى شكلا تبريريا يستمد ديناميكيته من استنساخ الماضي ويبني مشروعه على نسخ التاريخ بما هو حركة خطية ممتدة من الماضي الى الحاضر فالمستقبل. ويكون هم السياسي قولبة وقائع التاريخ لمناسبة المشروع العضوي.
لكنني لا أختلف معك في تقييمك للجبهة باعتبارها معارضة وظيفية. وهي تبرر استبداد الباجي وتصفه بالناضج الذي “لا يرضع إصبعه” قبل أن يشنف أسماعها بصفة الفاسق.
والظن ان حمة استمتع بصفته تلك بم هي تتويج لمسيرة معارضة.
فاذا كان العضوي اعادة انتاج للتاريخ ذاته وتأبيد للعلاقات والصراعات الدائرة فيه فهو لن يخرج عن التنميط وتكرار أزماته وتكرار الفشل في وعيها والفشل في تفكيكها وبالتالي في حلها.
لذلك ربما كان الأصلح مفارقة العضوي بمعناه الهووي الى عضوية طبيعية “بيو” تتصل بمعنى انسان الطبيعة. انسان جون جاك روسو منخرطا في اشكال تنظيمية جماعية تضمن حريته وبقاءه في آن.
وبالمحصلة فان الواقع ليس ملكنا بقدر ما هو ملك راس المال كنظام هيمني كوني وعدو رئيس متخف.
راس المال هذا أدغم بالليبرالية فبات هو هي واستباح الدولة واجهزتها حتى صارت اجهزته تذود عنه تمويها واخفاء وتقنينا لاستبداده واستعباده.
2. قسم ثان: تفاعل مع تعليق الأستاذ رضا
سي رضا
أوّٰلا:
كنت أشرت إلى ضبط للعضوية في مرحلة محددة وربطتها بثقافة الناس ومخيالهم ونظرتهم للعالم، وهذا مهم.
وفي هذا السياق اكتشفت أن الوظيفي هو الذي عجز عن ترجمة مرجعيته الوافدة (الفكر الليبرالي أو الماركسي، أو غيرهما). وكما يقول العروي إن الماركسيين فشلوا في تعريب الماركسية، ولكن اكتشفت أنّ الإسلاميين أيضا فشلوا في تعريب الإسلام (بقوا أشبه بالطائفة في مجتمع مسلم، كأنهم انتهو إلى “أسلمة” كل شيء بما في ذلك الإسلام) وكذلك القوميين لم يفلحوا في تعريب فكرة “الدولة الأمّة” ولم يستطيعوا أن يخلّصوها من إرثها التطبيقي النازي والفاشي. لذلك بقوا قوميين غير عروبيين (أعتبر نفسي عروبيا غير قومي). ويمكن أن نرصد بسهولة اتجاها عاما، في فكرنا السياسي، الى تخليص الإسلام من الإسلاميين والعدل من الاشتراكيين والحرية من الليبراليين والعروبة من القوميين.
بهذا المعنى، فإن الإسلاميين والقوميين والماركسيين لا يخرجون عن الوظيفيّة في علاقتهم بـ”الناس”. ( لانه لا اقتصاد ولا رأسمال ولا علاقات انتاج بدون الناس)
المنصف المرزوقي عبّر عن هذا سياسيا (قد لا يكون منتبها إلى ذلك)، فقد جمع بين قيم العدل والحرية والإسلام (بالمعنى الثقافي) والعروبة دون أن يكون اشتراكيا ولا قوميا ولا ليبراليا ولا اسلاميا.
وأراه مرحلة متقدّمة ولكنها تحتاج إلى تأسيس. وكان هذا هو مشروعنا في الحراك.
ثانيا:
تطور مفهوم العضوية ليتمفصل مع الحقيقة الاجتماعيّة. حقيقة الانقسام، لذلك فإن الفرق بين الجبهة وجزء من “الديمقراطيّة الاجتماعيّة” كالتيار والتكتل من ناحية، والحراك من ناحية أخرى، هو أنّ هؤلاء يمثلون “المعارضة الاجتماعيّٰة” في حين يمثّل الحراك “المقاومة الاجتماعية” (في الأزمة الأخيرة ظهر أنّه متوتر بين المعارضة والمقاومة)
والأفق هو تيار نضال اجتماعي يربط مع الانتفاض الجذري الديسمبري، بغاية توحيد البلد المقسم الاجتماعي (مفهوم جديد للعدل الاجتماعي).
الحراك شيء جديد، نرجو من أهل الفكر السياسي والمهتمين بالأنساق أن ينتبهوا إلى الظاهرة. لأنّ وجود الحراك في المجال السياسي الرسمي ووجود الاحتجاج الاجتماعي في المجال السياسي الهامشي هو الذي يمنع طي صفحة الثورة، وتجسير العلاقة بين المجالين يكون بنجاح الحراك في التعبير السياسي عن “الحراك الاجتماعي” الذي يدور أمام أعيننا، ويمكن أن تَنْظمّ، تحت عامل الوعي، قطاعات واسعة في التوجه النضالي الاجتماعي الباني.
الانتباه إلى وجود مجالين سياسيين في بلادنا سيمكننا من فهم عديد الظواهر. ومن يهتم بالمجال السياسي الرسمي فقط كمن يتابع مباراة في كرة القدم وقد حجب عنه نصف الميدان.
الثورة، لها وجهها السالب (الهدم)، وهذا يكون لحظة الحدث الثوري الأولى، وهي اليوم تدخل في طور البناء وهذا نجده في المركز (هيئات تعديلية ودستورية توازن النظام السياسي، جماعة مانيش مسامح) وفي الهامش (جمنة، الكامور)، في حين يلجأ القديم العائد العاجز عن التجدّد إلى الهدم (ضرب الهيئات التعديليّة والدستورية كالإيزي والهايكا، والعمل على تغيير النظام السياسي، ومنع تفعيل الباب السابع، وتأخير قيام المحكمة الدستورية).
ثالثا:
أشرتَ سي رضا إلى الرأسمالية والليبرالية، والى الاقتصاد
بالنسبة إلى بلادنا لم تعرف الراسمالية لا بمعناها الأول البسيط ولا بما عرفته من تحولات جذريٌة.
ما عرفته بلادنا هو أقرب إلى الرأسمالية الزبونية، رأسمالية الحبايب، ولم تعرف بلادنا الليبرالية (آش خص)، والمفارقة التي تعرفها النخبة التونسية أنها تناهض الليبرالية دون أن تكون اشتراكية.
لا أريد العودة إلى مناقشة الأوليات ولكن أشير فقط إلى أنه حتى الغربيين انتهوا ألى أنّ الاقتصاد ليس الحقيقة التي تسبق كل الحقائق، بل يعتبر بعضهم أنّ الذي يحرك الناس ووعيهم ليس الملكية وأنما هو الأمل في التملّك، وهذا فيه تفاصيل عديدة نتجاوزها.
ويعتبر كثير من مفكريهم الأفذاذ أن الاشتراكية والرأسماليٌة وجهين لجوهر واحد وحقيقة واحدة: هو مفهوم الملكية وثقافة التملّك.
في الحراك طرحنا مرّة فكرة الجماعية كفكرة أولية (ليست رأسمالية ولا اشتراكية) وأساسها أنّ الملكية “وظيفة اجتماعية”، تتحدّٰد بمصلحة الجماعة (ضبطها غير عسير، وكذلك الالتزام برعايتها وصونها)، وتسحب إذا ناقضت المصلحة الجماعية. وهذا سليل مبدأ: كل حسب جهده، وكل حسب حاجته.
كذلك مناقشة مفهوم الأجرة، وتطويره إلى مفهموم المشاركة (ليس لنا مشكل مع: شركاء لا أجراء التي أسيء فهمها وتطبيقها).
النقطة الأخيرة هي دور الجانب السياسي في تأسيس هوية المجتمع، ونعني بالسياسي شكل الانتظام والعلاقات، والعلاقات السياسية سابقة على علاقات الانتاج: فوسائل الإنتاج تتطور وهو ما يعني أنّ لها درجة صفر انطلقت منها، والسؤال هو ما الذي يؤسس المجتمع في الدرجة الصفر لقوى الانتاج، وهي مرحلة مجمع على وجودها (تسمى المشاعية)
الجواب هو أنّ هوية المجتمع في تلك اللحظة تحددها هوية انتظامه السياسي، وهذا ما يجعل من “السياسي” بنية تحتية والاقتصادي بنية فوقيٌة،،،الخ.
والموضوع مفتوح لمناقشات وإضافات،،، وهو ما يغيب عن مشهدنا السياسي الغارق في تجاذبات غير منتجة.
تعليق على التعليق للأستاذ رضا كارم
لست واثقا استاذ من ان الحراك يستثمر الجماعي بدل الفرداني.
ربما يقع هذا ضمن آمالك ورهاناتك لكنه لا بملك تاريخا ولا يحتج له بشاهد من ممارسة عناصر مهتمة بالاتصال او مكلفة به من الحزب او رئيسه.
اما عن الملكية الفردية وما تقترحه من تحويلها الى ملكية جماعية كما سميتها، فانني اعتقد ان الامر لا يتعلق بتغيير الشكل بل بضرب مبدإ الملكية ذاته. وذلك يعني أن كل بشر يملك حق الغذاء والتنقل وحرية الاقامة هنا او هناك، دون ان يكون مضطرا الى العمل لقاء تأمين بقائه. هذه مقاومة اجتماعية فعلية. تقطع مع راس المال وتتجاوز وجهه التعديلي المسمى اشتراكية. ولكن لا يمكن لهذه المقاومة الجذرية ان تذهب بعيدا في ظل وجود اجهزة الدولة. تلك الاجهزة ادوات راس المال ووسائل أرضنته وسيطرته. وضرب الاداة كسر للنظام. فالمقاومة الاجتماعية تحتاج رفض مشروع راس المال وفرض مشروع الانسان.
لكي نقاوم جذريا لا بد ان نغادر مربعات السلطة كل سلطة.
وهذا يجعل العضوية محض انتماء من اجل التبرير لا بغاية التثوير.
اعادة انتاج الثقافة القائمة يعني تجريب مضامين متخلفة قروسطية وفرضها على مشروع تحرري أفقه الأنسنة .
الدين عجائزيا حركيّا او تصوفا وعشقا يحتاج مجهودا تأويليا “خرافيا” تنجزه أجيال متتابعة.
أعتقد ان الامر يتعلق بالاعتراف بالاسلام بوصفه واقعا مهيمنا والعمل داخله لا لنقضه بل لتحرير المعنى داخله. هذه المهمة ستستحق زمنا وجهدا وخاصة مؤولين. والمعضلة هناك. المؤول ان تعلقت همته بالتحصيل السياسي فانه لا محالة واقع في اللبس. ولذلك يفترض أن يتحالف السياسي مع العالم لانجاز مهمة الفهم والتشريح واعتماد الادوات الانسب والتشخيص الامثل قبل مباشرة طريق طويلة من التغييرات الجذرية مع المعنيين بها وبهم.
هذا فهمي للعضوية: تغيير جذري. شكل افلاطوني نازل صاعد. لكنه يتعلم بين ساكنة التاريخ فيتطورون معا. ولا يسكن المثال او النموذج بل يرتبه على التاريخ.
هذا جهد ينبغي القيام به والا سنكون أعضاء في مجتمع القرن التاسع للهجرة نجتر القديم ونعيش سحر الشرق بوسائل لا علاقة لها بتاريخنا.
خاتمة :
شكرا سي رضا على إضافاتك، قد يكون هذا النقاش فرصة لتواصل أوسع وأعمق. قد نختلف على مواد “سرديّة الكرامة” ولكن لن نختلف على الكرامة وهي إضافة الثورة التونسيّة، وتحتاج إلى تصريفها سياسيا واجتماعيا ومعيشيا.
ولا اعتبر البتة بأننا سنصل في لحظة ما إلى الانتهاء من كتابة هذه السردية، أبدا هذه السردية تكتب في كل آن وحين، وتواصلنا هذا لا يخرج عنها. السردية إذا نظرنا إليها في مستوى الظاهرة العامة (كليّة) فإنها تخرج عن وعينا جميعا، رغم وجود معنى من معانيها عند كل واحد منّا. هي كاللغة والثقافة الجامعة كاللسان ونحن كالكلام.

Exit mobile version